تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عرض إعادة تدوير ...لكل شيء بالعكس...!

ثقافة
الأحد 22-11-2015
سعاد زاهر

بدا لي يوم الثلاثاء الماضي اول أيام الشتاء..ليس لأن الجو بدأ يتبدل،معلنا انتهاء شمس تشرين ،بل لأنني كنت على وشك فقدان اقدم صديقاتي في العمل،هي الاخرى لحقت بقوافل المغادرين...

بدا لي أن تلك القطرات التي غمرت شعري وأنا أقترب من مسرح القباني ،انما تقصدت أن تنثر قطراتها تلك،تريدني أن ألملم نفسي وأنا استعد لدخول المسرح، رأتني أضيع طريقي...‏‏‏

دخلت مرات ثلاثاً زواريب خاطئة، قبل أن أصل لمسرح القباني وأنا التي اعتدت الذهاب اليه منذ اكثر من خمسة وعشرين عاما...!‏‏‏

حزن دمشق...جعل كل المداخل متشابهة،ومن غيرها اقدر على استيعاب آلامنا..ومن غيرها يتفهم حالنا ،اليست هي التي فقدت الكثير من نكهة حياتها،وحاولت طيلة الوقت أن تحمي نفسها من خراب محتمل..؟‏‏‏

على غير المعتاد كانت الكهرباء في مسرح القباني مقطوعة،حتى هو لم يسلم من التقنين الكريه..!‏‏‏

ظلمة المسرح وحركة الجمهور الكئيبة،البطيئة بدا أنها تتماشى مع قتامة الجو الشتائي،ومع غيوم حالكة تكتسي بها سماء دمشق وكأنها تصر على ان تخفي حزنها..،حالها حال بطل عرضنا الذي تحملنا مشقة صراعنا مع ذاتنا بين ان نحضر عرضه أو لا ...خشية ان يكون كعروض حضرناها في موسم مضى وخرجنا منها وكأن لاشيء رأيناه..!‏‏‏

‏‏‏

مخرج العرض سامي نوفل.. ، رغم الظلام المحيط به...كان يمسك بكمبيوتره المحمول منهمكا في بحثه عن شيء ما... ،يحاول التقاط مشهد ،اشارة...‏‏‏

لم نلحظ توتره وهو الذي يقدم عمله المسرحي الاول،بدا ان هناك جدية،وتركيزاً على تلك المسرحية الصغيرة،بمختلف تفاصيلها محاولا أن يمنحها روحا مغايرة..‏‏‏

وكأن نوفل يشعر بنا و بوطأة مشقتنا...فيحاول أن يزجنا في لعبة مسرحية ممتعة-مقنعة..محترما قدومنا اليه...‏‏‏

بدا خيار صناع العرض موفقا منذ البداية ..فبدلا من أن يرموا بنا في عمل مونودرامي،باعتبار ان قوام العرض ممثل وحيد، نقلونا الى فن المونولوجيست مصرين على زجنا معهم في اللعبة المسرحية ،رغم ارتباكنا،واستغرابنا ...‏‏‏

حين انتظرنا بدء العرض في ممرات مسرح القباني استغربنا هذه الحركة، التي أوحت لنا للوهلة الاولى ان لاشيء خلفها،الى أن بدأنا في الدخول الى المسرح مع الممثل أسامة جنيد او سعدي...بإطاره الذي يتمسك به طيلة العرض.. مرحبا بنا تارة،مرتعبا تارة اخرى..يصر على أن نسرع قبل ان يأتوا..!‏‏‏

الاطار الثقيل بدا انه يشبه كثيراً من أحاديث سعدي،انه مفتاح ،او لغة تخلط بين الواقع وهلوسات الشخصية المرضية...‏‏‏

قدومه معنا لبدء العرض،جعلنا نشعر انه قريب منا،يريد ما ان نلعب معا لعبة،لن نفهم معانيها المكثفة ان لم يقبض على انتباهنا ويمتعنا،وفعلا تمكن صناع العمل من شد انتباهنا وابعاد الملل عنا،لاسباب عدة،فالعمل مدته ساعة الا ربع،ولكنها امتلأت فنونا مختلفة،ما بين القص،والتقمص والغناء،والتنويعات الحركية على الخشبة ،رغم أنه تم استغلال الخشبة أغلب الوقت ببعدها الامامي فقط،تاركا لنا عمق الخشبة حتى نهاية العرض،حين يلملم بطل العرض اغراضه وينفلت باتجاه أفق ضبابي مجهول..‏‏‏

القصص تتوالى في البداية يحكيها مدرس التاريخ الفقير سعدي، متألما لأن راتبه لايسد له أبسط احتياجاته،وعندما تتركه زوجته،ينفلت باتجاه عالم آخر ،يدخله اليه ابو النور متعهد الزبالة...يتحسن وضعه المادي،ويستمر بحياته غير آبه بنقلته من التاريخ الى الزبالة...إلى ان يأتي يوم ويعطيه أحدهم صندوقاً وحقيبة سقطا من طائرة انفجرت.. تكشف كيف خطط لكل هذه الحروب الملعونة..!‏‏‏

هنا يتحول حاله ويزج في لعبة أكبر منه وهو الانسان البسيط،وتسلب ارادته ،كما يسلب عقله..!‏‏‏

ليس مهما التفاصيل الغنية،التي حاولت توصيف حال الحروب،وتمزق وموت ... من يعايشها،والخراب الذي تصدره لينعكس على كل شيء......‏‏‏

حاول العرض أن يمر عليها بسرعة ،مبسطا اياها،مبتعدا عن التعقيد والمباشرة،هكذا انفلتت الينا وكأنها مجرد تنويعات على خشبة تتيح لبطلها القفز اينما شاء طالما انه يحتمي بشخصية فصامية،حتى هلوساته تصبح مبررة..!‏‏‏

الحكايا تختلف ولكن الحروب ونتائجها تتشابه..!‏‏‏

صناع العرض كانوا واعين لهذه المسألة فركزوا على تفاصيل وأدوات العرض من غنى عشناه مع فضاء العرض المسرحي البسيط الذي صممه مخرج العمل نفسه،وموسيقا موجزة لاتشتت انتباه المشاهد،واضاءة متبدلة وفقا لمقتضيات الشخصية الدرامية صممتها ريم محمد،ولكن أهم ما في الامر أن الشخصية نجحت في نقلنا معها من حال إلى أخرى دون ملل..ساعدتها الروح الخاصة التي وصلت إلينا..التي من الواضح انه اشتغل عليها بعمق من قبل المخرج والممثل معا..لنعيش مع شخصية أجادت في تجسيد تقلباتها النفسية ببعدها الدرامي،ونجحت في تقديمها عبر تنويعات أدائية جاذبة، طبيعتها تبرر له قفزاته البهلوانية ما بين الهدوء والصخب،ما بين الحزن والفرح...‏‏‏

حتى أفكاره المتخبطة تارة والواضحة تارة اخرى ..بدا انها جزء من تركيبة الشخصية ،حالها كحالنا في أوان الحروب،حيث الانفلات نحو اللامنطق يكون تارة اختياريا وتارة لا اراديا..كأن سعدي أراد أن يقول لنا حالكم من حالي صحيح ان قصتي تختلف عن قصة اي واحد منكم،لكن بالنهاية النتيجة واحدة...‏‏‏

الديكور الذي نفذته ريم عبد النور.. رغم بساطته كان ينقلنا من واقع الى آخر..هكذا عبر بنا من السرد الآني ،الى احد السجون الامريكية ..الى دخول سعد المسعودي الاراضي السورية ليجد كيف تبدلت معالمها،وحالتها وكيف شتت حالنا الحروب ...‏‏‏

التنويعات لم يكتف العرض بإبرازها دراميا بل استخدم شاشة وضعها مخرج العمل خلف الممثل هي الاخرى بدت لاعبا اساسيا في العمل،كانت تمضي بنا الى تنويعات مكانية لتقدم لنا رؤية البطل للمكان،الذي ينهار في نهاية العمل دفعة واحدة،كما كل شيء جميل تصر الحرب على انهائه..!‏‏‏

اعادة تدوير تأتينا عبر بروشور العمل مقلوبة...حركة ربما اراد بها مخرج العمل سامي نوفل ان يصدمنا منذ البداية ويخلخل قناعاتنا مؤكدا لنا أنه في أوان الحروب .. لاتتيقنوا من شيء.. لاتقتنعوا إلا بما يثبت بعد مضي زمن صحته...قد يأتي وقت نكتشف فيه أن كل شيء معكوس..!‏‏‏

soadzz@yahoo.com ‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية