|
ثقافة
الكاتب التركي العبقري عزيز نيسين في قصة له بعنوان: «المجانين الهاربون» يرصد جنون العقلاء وهم يفسدون كل شيء، فيكشفهم من خلال قصته هذه بتقنية سردية بارعة امتلأت بالتشويق المبني على معرفة اجتماعية ونفسية وإدراك لما تفعله البيروقراطية في المجتمعات والمؤسسات، المكان هو مدينة: «أريسون توبوليس» والحدث هروب المجانين من العصفورية وسيطرتهم على كل مؤسسات المدينة، ومن خلال المواجهات الحامية التي خاضها المجانين مع العقلاء، يكشف نيسين عن الزيف والفساد والنفاق والبيروقراطية والخواء الكبير في مؤسسات هذه المدينة. «في سياق السرد يكشف مثلاً نفاق التصفيق الذي يعيشه الناس، حيث يذهب مسؤول من المجانين إلى اجتماع فيستقبله الجمهور بالتصفيق الحار، يسأل المسؤول المجنون الذي دهش كثيراً من هذا التصفيق، عن سرّ هذا التصفيق، فيكون الجواب: لاشيء، وهنا يعاقب المسؤول المجنون الحاضرين بالتصفيق لمدة 24 ساعة متواصلة. عقاب مميز لنفاق استشرى في هذا العالم الثالث (انتهى الكلام عن نيسين). في الشارع نرى الجنون وجهاً لوجه، وأيضاً نراه في مختلف المؤسسات، جنون على هيئة فساد، جنون على هيئة صمت على فاسد، جنون على هيئة جملة: «شو طالع بايدنا» أو جملة «شو بدنا». أحد المارة يصفق الآن، لا بل يتكلم بصوت عالٍ،: «كيلو الحطب ب 65 ليرة سورية؟ وللثقافة حطبها أيضاً، نعم تحتاج الثقافة إلى حطب لتنير العتم العام، لولا الثقافة لصار كغ الحطب بـ 100 ل.س،؟ ـ وعندما يصير كغ الحطب ب 100 ل.س؟ ـ آنئذ لابد من الجنون لكي نفهم ما يحصل، لابد من جنون محلي صرف لنفهم بعض الذي يصير في حياتنا. ـ والمصطلحات والمفاهيم؟ كيف تعرفها؟ ـ عبر الجنون! فالمثقف يبحث عن حطب، والعامل يبحث عن حطب، حتى إني رأيت مديراً عاماً متقاعداً يبحث عن حطب. ـ أرأيت مسؤولاً حالياً يشتري الحطب؟ ـ نعم رأيته في منامي. ـ إنك مجنون إذاً. في روايته «سليمان» يتحدث مؤلفها سامي الجندي عن داءين أصابا مدينة «مجيد آباد» أحدهما «الفقس»، الفقس الذي يشبه الجنون تماماً، «ولو أنه ليس جنوناً بكل معنى الكلمة، ثم يضرب مثالاً الجندي عن شاب يبلغ طوله المترين، يروح ويجيء في زقاق يختاره لكل صباح، عندما كان مدرساً للغة الانكليزية كان مهذباً، مازال مهذباً، اختلفت طبقة صوته فقط، كان أقصر مما عليه الآن، كان يحبّ الخبز كثيراً، ويتأنق بانتقاء أرغفته في الفرن، وزاد عدد سكان المدينة وزاد الطلب على الخبز، وقلّ الطحين، ففسد مزاج الأستاذ وصار عصبياً غضوباً في معاملة الآخرين، وبخاصة تلاميذه الذين يحبّهم جمّ الحب، وألحت على الأفران حاجة البشر فعمد أصحابها إلى تنظيم البيع دفعاً للفوضى، وأجبروا المشترين على الوقوف رتلاً منظماً لا ينازع أحد فيه الآخر حقّه. ارتاح الأستاذ لهذا المنظر المتحضّر، لكنه كان يضايقه أن يقضي ساعة وأحياناً ساعتين حتى يجيء دوره فيأخذ ربطة الخبز دون أن يسمح له بانتقاء أرغفته. وحدث مرة أن أرسل شومان دركياً من عنده يأتيه بالخبز فاقتحم الرتل ووقف في أوله دون أخذ اعتبار للواقفين، وانتقى ما يريده وولّى.. على إثر هذه الحادثة جنّ الأستاذ، «انتهى كلام الرواية». بالقياس إلى المقطع السابق، كم مرة يجب أن نجن في هذه الحياة، منذ أيام وبعد الساعة الثانية صباحاً ذهبت إلى الفرن لأشتري الخبز، كنت مثل الأستاذ في الرواية أشعر بالضيق من الزحام والفوضى، رأيت على باب الفرن اثنين فقط، اشترى الأول وبقي الثاني أمامي.. في لحظة صار دوري، فجاء شخص «غير روائي طبعاً» أخذ دوري واشترى ضعف الكمية المسموح بها، كان يشبه التركتور..! كان يجب يومها أن أجن حسب توقعات السرد الحياتي والنفسي.ترى ومن قال إنني على قيد العقل الآن!. سأختم بقول عن العقل، حيث قال مرة باسكال: «الإنسان نبتة مفكرة»، عفواً باسكال وماذا إذا ذهبت لشراء الخبز من الفرن وجاءك التركتور وأخذ دورك؟ ماذا ستفعل بكل هذه الجرارات الفالتة التي لا تملك أي فرامل. |
|