تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الاستيطان تهويد للمكان

شؤون سياسية
الاربعاء 31/10/2007
توفيق جراد*

علاوة على المشكلات التي تواجه الكيان الإسرائيلي في الداخل والخارج, فإن المشكلة الرئيسية التي تؤرق هذا الكيان, حتى أنها باتت مصدر أزمة له, هي: أن إسرائيل, كيان سياسي ومجتمع, فشلت حتى الآن, سلوكاً وثقافة, في الانتماء إلى الشرق.

وهذا عائد إلى جملة أسباب: الثقافي منها متوارث عقائدياً ومرتبط بعنصرية إسرائيل ك (دولة اليهود) كما يعرفها تيودور هيرتسل في كتابه الذي حمل عنوانا من تلكما الكلمتين- نص على فوقية هذا الكيان حتى قبل أن يخلق, متحدثاً عن كيان يصنع في (كبد الظلام) ويقف سدا في وجه ما أسماه (البربرية الآسيوية).‏

يضاف إلى هذا: أن إسرائيل ما زالت تفتقر, بعد ستين سنة على قيامها, إلى حدود جغرافية واضحة ونهائية. هذه المشكلة أخذت تتفاقم بعد حرب عام 1967 واحتلالها الضفة الغربية وقطاع عزة وسيناء وهضبة الجولان. ولئن كشف حوار عن بعد بين أول رئيس وزراء للعدو الإسرائيلي ديفيد بن غوريون والرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول حول حدود إسرائيل بقول الأول (لو سألتني هذا السؤال قبل عشرين عاماً لأجبتك أما الآن فإني لا استطيع), في حين قال موشيه دايان رداً على السؤال نفسه لصحافي أميركي (إن حدودنا حيث يقف آخر جندي إسرائيلي), فإن موضوع الحدود بحاجة إلى دستور وهو ما تفتقده إسرائيل الآن, حتى أنه قيل: إن عدم وجود دستور إسرائيلي هو ضرب من سياسة ثابتة. ما يعني أن إسرائيل تتعمد ألا يكون لديها دستور ثابت, يكون مدخلها للاستقرار أو منفذاً له, فهي لا تزال رهينة قرار الهيئة الدستورية لعام 1949 وأدت بموجبه فكرة الدستور الذي أصرت على أن يكون دستوراً لكل اليهود في العالم.‏

وحتى لا يكون لها دستور تذرعت بأن قوانينها تأخذ بنظرية (القانون المرن) التي تتبعها بريطانيا.‏

غياب الحدود وضياع النص عنها بين (حدود ثابتة) و(حدود آمنة) وأخرى »قابلة للدفاع عنها), فرض على إسرائيل الانشغال الدائم بتثبيت نفسها كمشروع غير مستقر, تسعى إلى تلمس حدوده باتفاقيات ثنائية لم تقلل من حدة هذه المشكلة, ما يجعلها بعد 60 عاماً »كياناً قيد التأسيس) ولعل هذا التوجه سبب في اندلاع الحروب في المنطقة. وهذه المنظومة, التي تختلط فيها الجغرافيا السياسية بأبحاث الصراع, تجعل الكيان الإسرائيلي في دوامة الصراع الذي يتنازع رغباتها في أن تكون جزءاً من المنطقة أو أنها امتداد حضاري أوروبي في المشرق العربي, تماماً كما نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا, إن كان ينتمي إلى القارة الأفريقية حضارة وثقافة أم أنه امتداد أوروبي في القارة السوداء? هذه الحقيقة طرحت نفسها على مؤتمر برشلونة الذي عقد مؤخراً وشارك فيه حشد من المثقفين بينهم فلسطينيون وإسرائيليون, وتم التعبير عنها بسؤال تقدم به محاضر في الجامعة العبرية في القدس: »هل العرب والفلسطينيون مستعدون للقبول بإسرائيل كجزء من الشرق الأوسط?). ولئن كان هذا السؤال برسم الذين سيحضرون »مؤتمر الخريف) الذي دعا إليه الرئيس الأميركي جورج بوش في مقر الأكاديمية البحرية الأميركية في أنابوليس من جهة وأهداف المؤتمر التي يحددها جدول أعمال, لم يحدد بعد, من جهة أخرى, فإن الباحث والمحاضر الإسرائيلي »يوسي يونا) رد على السؤال السابق بتساؤل قال فيه: هل إسرائيل مستعدة أن ترى نفسها جزءاً لا يتجزأ من الشرق الأوسط من الناحيتين الثقافية والاقتصادية? إن كان كذلك فهذا يلقي عليها عبئاً ثقيلاً خلاصته: أنه يتعين عليها أن تغير سلوكها في المنطقة وتكف عن التفكير في أنها »دولة يهودية) لتكون دولة كل مواطنيها. وهذا يتطلب أن تكون هناك مساواة بين الجميع, بمعنى أن تقلع إسرائيل عن ممارساتها العنصرية. كما يتعين أيضاً الإقلاع عن سياسة مصادرة الأراضي والاستيطان وهي السياسة التي تعني »تهويد المكان) وما يترتب عليه من تغيير الحقائق القائمة على الأرض.‏

الاستيطان اليهودي, كما يرى الدكتور جوني منصور في كتابه »الاستيطان الإسرائيلي- التاريخ والواقع والتحديات الفلسطينية- دار الأسوار- عكا), ليس إلا شكلاً من أشكال الاستعمار التقليدي في تكوينه الفعلي, وقد تحول إلى استيطان مجند من قبل العقيدة الدينية والعسكرية والسياسية. ولأنه كذلك نال دعماً جماهيرياً من قبل الأوساط والمحافل السياسية الإسرائيلية على مختلف مشاربها وتوجهاتها. ولأنه كذلك فهو يشكل عقبة كأداء أمام الفلسطينيين تتعين مواجهتها بكل السبل المتاحة للتخلص منه قبل الدخول في مفاوضات تكمل طريق التسوية وإلاّ ترك الاستيطان ينمو تحت لافتة »الحقائق القائمة على الأرض). واحتيالاً على هذا التوجه ابتدع مناحيم بيغن فكرة التوسع الشاقولي للمستوطنات التي تقام في الداخل جاعلاً مثيلاتها المقامة في الأطراف الشرقية من فلسطين ترسخ قاعدة مزدوجة: إما أنها ترسم الحدود الشرقية للكيان الإسرائيلي أو أنها تشكل خط الدفاع الأمامي.‏

الاستيطان اليهودي في واقعه الراهن يشكل رمزاً من رموز القوة كون الجهات التي تتولى إقامة المستوطنات في الضفة الغربية وقبلها في قطاع غزة تخضع لإشراف »وزارة الدفاع). ما جعل الاستيطان يرمز, حسب »يهود باور) المحاضر في الجامعة العبرية, إ لى وجود دولتين في الكيان الإسرائيلي: الأولى: تلك التي تقول إنها امتداد أوروبي يأخذ بالنظام الديمقراطي الغربي. والثانية: دولة المستوطنين التي تهيمن عليها سلطة »دينية متطرفة).‏

ويرى »باور) أن هذا النموذج الماثل أمامنا, يحمل في أحشائه بذور فنائه, بما يحتويه من عوامل الصراع داخل الكيان الإسرائيلي, إضافة إلى ما تقوله الكاتبة الصحفية (أميرة هيس) إن »إسرائيل) دولة كل شيء: العالم العلوي والعالم السفلي, الأغنياء والفقراء, العلمانيون والمتدينون, الشرقيون والغربيون...,الخ, وهذه مكونات لعوامل صراع داخلي, مشيراً إلى أن التطرف الذي جسدته جماعة »دينية خلاصية/ مسيحانية) وساد المجتمع أيام الهيكل الثاني كان سبباً وراء التمرد ضد امبراطورية عالمية (روما) لم يكن هناك أمل في هزيمتها. وهذه المرة فقد يحصل السيناريو ذاته فتحول جهات متطرفة (دينية وعلمانية) في المجتمع الإسرائيلي دون تحقيق السلام.‏

لا يقتصر الاستيطان اليهودي على الضفة الغربية فقط, بل إنه جار وبشكل حثيث في منطقتي الجليل (شمال فلسطين) والنقب (في الجنوب). ولذلك فإنه يستقطع مبالغ ضخمة من الموازنة العامة للدولة العبرية. وإذا كان شمعون بيريز (قبل أن يصبح رئيساً للكيان الصهيوني) قد أوضح أن ما أنفق على المستوطنات في الضفة والقطاع يساوي مجموع المساعدات التي تلقتها إسرائيل من الولايات المتحدة منذ عام ,1967 فإن موازنة العام الماضي 2006 حددت أن ما أنفق على المستوطنات وصل إلى 14 مليار دولار (أي 15% من الناتج القومي الإسرائيلي).‏

ولا تدخل في هذا الحساب الأموال التي أنفقت على إنشاء المنازل.‏

وقد رأت يديعوت أحرونوت في ملحقها (3 شباط 2006) أن موازنة العام الماضي أعدت لتحقيق مبدأ »أرض أكثر وعرب أقل), وأن الاستيطان في الضفة الغربية قد وضع في إطار مسؤوليات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة, لتحقق ما عجزت عن تحقيقه هيئات المجتمع المدني من زيادة في عدد المستوطنين بعد ثماني سنوات من توقيع اتفاقيات أوسلو, التي زادت عددهم بنسبة 80%.‏

* باحث فلسطيني‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية