|
شؤون سياسية وهذا ما يفرض الاشكالية الأهم في التفاعل مع الواقع العربي الراهن فالحدود من الظاهر تقدم وصفاً سلبياً إذ كثيراً ما تتحدد الصورة على أنها سلبية متهالكة وبأن الاحتمالات القائمة في الذهن العربي الشعبي والنخبوي تكاد لا تغادر منطقة اليأس والاحباط مع ما يتبع ذلك من فقدان للذاكرة والدخول في غيبوبة فكرية وسياسية تضيع معها معالم الواقع الموضوعي في الداخل العربي بالمقام الأول وتسحب في تيار الضياع كل إمكانية لالتقاط مصادر الحقيقة وبناء الخطوات الأولى ومن ثم تشكيل نمط من الوعي السياسي ما زال على قيد الحياة بما يوازي وجود الأمة وبقاءها على قيد الحياة. إن هذه المنطقة ذات الطبيعة النفسية والاعتقادية تغيب عادة عن معايشة الواقع والتدقيق في إيقاع التطور السلبي والحركة فيه والاشكالية هذه يتحد فيها الضعيف والمستسلم من الداخل مع القوي المستبد من الخارج كلاهما من موقعه يرى الصورة في الداخل العربي مفككة وعديمة الجدوى مع اختلاف مصدر الاحساس ودرجة التأثر النفسي, المستسلمون من الداخل هم يائسون وتائهون ويبحثون عن غطاء عاطفي لما هم فيه. والمندفعون من الخارج هم تجار بالمعنى السياسي وبمنطق الآداب الحضارية والمصالح المادية هم تجار بالمعنى السياسي وبمنطق الآداب الحضارية والمصالح المادية ومن شأنهم بصورة مباشرة أن يستثمروا اللحظة العربية الراهنة بما فيها من وهن وتلاش وانقطاعات عميقة. وفي حالات كثيرة يلتقي التياران في نقاط مشتركة لا يهم فيها المضمون العاطفي بقدر أهمية النتائج والتطبيقات المترتبة على هذه الوضعية من حيث إنجاز ظرف يغري بمزيد من التراجع في الداخل العربي ويقدم كثيراً من الشروط المجانية لاندفاعات القوى والمشاريع الأجنبية إلى المنطقة. لعلنا بهذا التلميح انتقلنا من أمة تملك كل عوامل الاغراء والجذب الاستعماري بنسقها المادي والتنظيمي والسياسي إلى مستوى الأمة (المطموع بها) ما دامت على هذا الحال من الاسترخاء والغيبوبة الجماعية والدخول في المنافي والحارات المجهولة تحت وطأة الرثاء والبكاء واختيار أسلوب جلد الذات ما دام الانطباع العام بأن هذه الذات العربية لم تعد عاجزة فحسب ولكنها صارت غير موجودة ولو بطريقة الجزء أو الاشارة أوالحضور المثخن بالجراح والنكسات والهزائم. من هنا فإن لدينا مشروعية طرح السؤالين الأكثر أهمية, الأول منهما هو هل الحقيقة في الواقع العربي هي على هذه الدرجة من الضياع والتسيب إلى أن بلغت حدود عدم الاكتراث بالسؤال عن السبب ما دام طوفان الهزيمة عاتياً? أما السؤال الثاني فهو هل ما يجري على السطح العربي المشكل من سياسات وسياسيين وارتهانات واختناقات وانحراف عن خط التطور الحضاري العالمي الراهن, هو ذاته الذي يستقر في الأعماق بمعنى هل انهزم العرب من العمق كما هي الهزيمة في الظاهر والأفق والمتداول, نعترف مباشرة بأن اسئلة كهذه هي أكبر من أجوبتها لأسباب وجيهة منها: أولاً: إن المؤامرة الكبرى الآن تدور حول محور سحق السؤال بشرط إغلاق أي منفذ للجواب عليه أو عنه وحينما يموت السؤال تكون الأمة قد استسلمت تماماً, لذلك لا يحب الآخرون السؤال ولا يحبون من يسأل. ومع الأسف انتقلت عدوى هذه اللوثة من الخارج إلى الداخل ومن الأنظمة إلى القيادات الحزبية ومن المتربص إلى النخبة السياسية والفكرية والاعلامية. ثانياً: إن النسق الجديد من الاستهداف الخارجي هو شمولي الأبعاد والأهداف وتغييب السؤال والجواب معاً يشكل منطقاً حاضناً لمثل هذا المنطق الخارجي. - إن الأمر الواقع هو اختيار الداخل العربي بأساليب متفاوتة وبادعاءات متناقضة وأن رد الفعل من الخارج هو مجرد التقاط لعوامل وأولويات صار الداخل يطلبها ويطالب بها من خلال نظام الاستقواء بالأجنبي ونظام استيراد الحلول من الخارج ونظام تعهيد الواقع العربي بمن فيه وما فيه للقوى الخارجية نفسها باعتبارها تملك القوة ولديها خبرة عاتية في التعامل مع العرب وهي مالكة التوازن واشتراطاته ما بين الوحدة والتجزئة والتطور والتخلف والمسموح والممنوع وما بين العرب والكيان الصهيوني. ونعود مهما نأينا عن الواقع ثم اعتقدنا أن الواقع هو الذي فر من بين أيدينا وغادرنا ونأى عنا, نعود للتدقيق في عمق وحقائق السؤالين الأهم, والمعركة الكبرى تدور هنا بما يوازي المعركة الدائرة على أرض الواقع, وبما يعادل خطورة ما هو قائم وما هو متوقع. هناك لدى العرب من لا يريد أن يسأل ولا يجيب, وهناك منهم من ألغى السؤال لحساب الإجابات المعلبة ذات الماركات الفاقعة والطنانة وهناك بقايا جذور نور وحياة لا تزال تحتضن مشروعية السؤال والجواب معاً ومن هنا تبدأ الحكاية المأساة. ونعرف جميعاً أن السؤال تساؤل وهو يشتمل على المرارة والرفض معاً ثم إن للسؤال استطالات لا يملك أحد السيطرة عليها فعلى سبيل المثال في السؤال تستفسر وتستطلع ما يريده الآخر الغريب ولكنك سرعان ما تمتد نحو الجزء الأقوى والأهم وهو أين أنت في الاجابة وما هي حصتك إن كنت تدري أو لا تدري في تسهيل الجذب الاستعماري الراهن إلى ذاتك ثم هل لديك ما يشير إلى أنك رافض أو (مزعوج) على الأقل مما تفعله الولايات المتحدة الأميركية وفي ركابها قوى من الغرب وفي مداخلها ومخارجها الصهيونية والكيان الصهيوني. لا أحد يريد أن يسأل لأنه لا يريد أن يجيب وفي هذا التيار المؤلم تفرض نزعتان مسمومتان حضورهما ليس بمعنى إنجازهما للشروط المطروحة ولكن بمعنى اختيار هاتين النزعتين ووجود بناة وحماة ومروجين لهما. ومعروف أننا الآن في مناقشة الوضع العربي لا نصدر عن مجاز ولا نتوهم أو نتعسف, أن الاختراقات والاهانات قائمة تحت أبصارنا وعلى مسمع منا, هذه اللوثة ذات طبيعة واقعية بالاعتراف بمرتسماتها لكن غير الطبيعي هو أن يتحول الاعتراف إلى استسلام نفسي وسياسي ثم يتحول الاعتراف نفسه إلى شرط ناظم تمارس فيه السياسات العربية وجوقاتها الاعلامية والتنظيمية صيغة خيانية نعيشها بمرارة وحرقة الآن بحيث لا يعود المعتدي معتدياً وبحيث يطلب من الضحية أن تسبح بحمد القاتل وتقبل يد الجلاد. أما النزعة الغرائبية الأخرى في الداخل العربي فقد ولدت ونمت في الحاضنة الهمجية بجزأيها الخارجي والداخلي, ولعل أفضل تصوير لها هي تلك الحكمة المعروفة من خلال القردة الثلاثة وأحد لا يرى والآخر لا يسمع والثالث لا يتكلم. إن ذلك أدنى أن يعرض الإنسان نفسه للخطر وهو (ذكاء واقعي خارق) عند الشرائح العربية المشتغلة بهذه الحكمة وما أكثر هذه الشرائح وما أحقر ما اختارت, وما أعجب ما يجري من صبر عليها وصمت عن سقوطها, لكن التطور المستجد في حكمة القردة يتمثل في نقل وقائع الحيوان عبر هذه الحكمة إلى الإنسان العربي نفسه وكأنما فطنت السياسات العربية إلى أهمية كليلة ودمنة في هذا العصر. وأما الاستطراد الثاني الأكثر مأساوية فهو أن كل قرد من الثلاثة سحبت منه حاسة واحدة وتركت له الحاستان الأخريان, لكي يستمر على الأقل بالوجود على قيد الحياة, ولكي يستمتع الظالم الوافد من الخارج والتافه المستقبل من الداخل بصورة ما يجري بأثر سادي واضح. وهكذا صار المطلوب من العربي أن يكون في ذاته القرود الثلاثة أي أن لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم عندها يكون الإنسان قد صار متوازناً بل عاقلاً وحضارياً, إن تداعيات السؤالين المرين هل ما هو قائم حقيقي ومن العمق وهل من عوامل وأسباب في المقدمات أدت إلى هذه النتائج. إن المزج بين السؤالين من جهة والاستطراد بهما نحو الاكتشاف والمتابعة والتدقيق, كل ذلك سوف يخلق مناخاً غير مرغوب فيه وسوف يقدم آلية بسيطة للغاية قد تنمو ثم تتكاثر وتتمرد على الموت المجاني القادم من الغرب والذي استأجر المجرم فيه حفاري القبور بأجور عالية حتى يدفن الإنسان وتطمر قضاياه وتتحلل مشاعره في أقرب فرصة وأسرع زمن. علينا أن نستدرك بصورة مباشرة أن المنهجية هي من صفات الإنسان ومواصفاته وهنا تتحد مقومات عقله مع آثار واقعه في سياق الإحساس بالخلل والخطر معاً. وفي سياق الاستثناء القاتل الذي يعيشه العرب في هذه المرحلة ليس نسبة إلى غيرهم فحسب وإنما نسبة إلى تاريخهم ووجودهم الراهن وحصتهم في عالم منفلت المصادر والمعايير غابت منه قيم العدل والمساواة وسيطرت عليه بواعث الاستغلال والقوة المادية الصماء وتبني منطق الربح والمصالح المادية دون إحساس بالآخر ودون حساب لأي رد فعل. إن ما يجري في الوطن العربي خطر للغاية لكنه الشرط الضروري لمعرفة الحقيقة بكاملها وهذا ما يدفع للقول إن ما هو ظاهر على السطح من ارتداد وهزيمة ليس هو ذاته في العمق وبطريقة التأشير السريع نقول إن الجريمة يصنعها مجرم وظروف واكبته ولا يحق لنا أن نسجل الجريمة ضد مجهول. |
|