تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


آميلي نوتومب: الجوع هو أنا

كتب
الاربعاء 31/10/2007
ل. ه . ح

(ما من دفاع ممكن أمام الجمال, مهما حدسنا بالفاجعة الوشيكة. حين يهاجمنا الجمال فإن التضحية المستقبلية تخلو من الأهمية). ليست إميلي نوتومب هي قائلة هذه العبارة. إنما الروائي الإسباني رفايل أرغولول لكن يمكن ببساطة جعل هذه الجملة مقدمة تشرح رواية إميلي نوتومب (بيوغرافيا الجوع).

آميلي نوتومب, التي تعد اليوم الكاتبة, السوبر ستار اليوم في باريس هي ابنة سفير بلجيكي عين في اليابان حيث ولدت عام 1967 وقد تنقلت بسبب وظيفة والدها بين دول عدة, من اليابان إلى الصين ثم إلى نيويورك فبنغلادش وكمبوديا ودول الشرق الأقصى. وقد كتبت في هذه الرواية هذا الترحال.‏

قد نجد روايات تتميز بالسرد الجذاب واللغة السلسلة والأنيقة لكن الذكاء الاستثنائي يصعب العثور عليه حتى في قلب الروايات الجميلة. وهذا الذكاء المتوقد بين حنايا الكلمات موجود وبسخاء في أعمال نوتومب. فكرة الجوع التي تمحورت عليها هذه الرواية فكرة جديدة لم يحدث وأن تناولها كاتب قبلها لهذا نشعر أننا نقرأ لفيلسوفة. وهي تحدثنا عن درجات جوعها وأشكاله والأشياء النهمة لتذوقها. (لم يكن الجوع الخارق يعني في نظري إمكان الفوز بالمزيد من اللذة, بل امتلاك مبدأ المتعة نفسه, وهو اللامنتهى, وكنت خزان ذلك التوق الذي لشدته كان يجعل كل شيء بمتناول يدي).‏

نوتومب تمسك بيدي قارئها, لتبدأ معه حكاية, جوعها وتطوره, كيف تطور من جوع للشوكولا والكحول إلى جوع للجمال: (إن من يعاني جوعاً خارقاً لا تكون شهيته كبيرة ومتزايدة التطلب وحسب, بل تكون له شهيات أكثر صعوبة وثمة سلّم للقيم حيث الأكثر يولد الأفضل: مشاهير العشاق يعلمون ذلك. ويعلم ذلك أيضاً الفنانون المهووسون بفنهم, وذروة الرهافة هي خير حليف للوفرة. كلامي يستند إلى خبرة واسعة في هذا المجال. عندما كنت طفلة متضورة جوعاً إلى السكر. لم أكف يوماً عن السعي وراء زادي منه, فالسعي وراء السكاكر كان بالنسبة لي أشبه بالسعي وراء الكأس المقدسة, كانت أمي تعارض هذا الشغف عندي ظناً منها أنها تنجح في خداعي إذ تعطيني بدل الشوكولاته قطعة جبن كانت تقززني أو بيضة مسلوقة تشعرني بالمهانة أو تفاحاً بلا مذاق أو طعم هو آخر ما قد تشتهيه نفسي).‏

وتشرح لنا بشفافية وصراحة كيف أنه ما كان لتلك المناورات والحيل أن تنطلي على نباهة جوعها, بل كانت تزيده سعاراً, وفوزها بما لا تبتغيه يجعلها أشد جوعاً. فنجدها إزاء موقف غريب. هي المتضورة جوعاً ترغم على تناول الطعام.‏

(وحده الجوع الخارق يغسل جوع أي كان. ففي حال الفطرة, لا القسر يدرك الجوع الخارق جيداً ما يبغي, يبغي الأفضل, اللذيذ, الفاخر ويتكفل باكتشافه في كل جانب من جوانب المتعة).‏

تعشق طفولتها في اليابان بحيث إننا لا نستغرب كيف أن أول شيء تفعله لدى تخرجها من الجامعة أنها تشتري تذكرة للسفر إلى طوكيو لتقابل مربتيها,. وفي الصين تعاني لمدة ثلاث سنوات من محاولات مضنية للتأقلم وتأتيها النجدة حين ينتقل والدها الدبلوماسي البلجيكي إلى نيويورك بحيث إنها لم تصدق عينيها, كم هي بعيدة عن بكين العام ,1957 لقد غادرت كوكباً. لكي تحل في كوكب آخر ليس مؤكداً أنه تابع للنظام الشمسي إنها: نيويورك.‏

وبعد أن تحكي لنا بأسلوبها الشائق الصريح عن مزايا نيويورك تصرخ بنا كما اعتادت منذ أول الرواية:(إنها لبهجة أن تحيا في نيويورك وأنت في الثامنة من عمرك, وفي التاسعة من عمرك, وفي العاشرة من عمرك,إنها لبهجة!لبهجة! لبهجة)!‏

وهذا شعور طبيعي لمن سينتقل لاحقاً إلى بنغلادش. في نيوريوك تفتح نهمها للجمال, واكتشفت جوعها الحقيقي وأيضاً ألمها فهي لمن تكن على قدرٍ من الجمال وانهمكت بتأمل شعر أمها الجميلة وكذلك شقيقتها جولييت ومربيتها إنجه وتشرح لنا كيف أصبحت تحاول لفت نظر النساء الجميلات في حياتها كطفلة وأصبحت تكتب قصائد شعرية لمربيتها الشقراء إنجه وفي بنغلادش بدأت تتفتح على حقيقة جسدها البعيد كل البعد عن التناسق المطلوب. وحين فتنها فتى انكليزي ذو شعر طويل أسود, شاحب البشرة, قرمزي الشفتين, رقيق الحاشية,راحت تلاحقه أينما ذهب عله يلمحها:‏

(لم يلمحني وكنت أعلم جيداً لماذا: لم أكن ممن يلمحون) بمتعة وتفحص تلاحق نضجها الجسدي والروحي والثقافي لا تبخل علينا بسرد تفاصيل حياتها اليومية في البلدان الكثيرة التي عاشت فيها فسعيها وراء الجمال المطلق لم يكن ليمنعها من عيش كل تفاصيل الحياة.‏

فنتابعها وهي برفقة أمها وشقيقتها إلى خليج البنغال حيث أنزلتهم طائرة مخلعة ل (بنغلادش بيمان)‏

في (كوكسز بازار) وهو منتجع صيفي يعود بناؤه إلى زمن الاستعمار الانكليزي كان في ما كان في زمن مضى, فندقاً فيكتورياً فخماً لم يبق منه سوى خربة مأهولة بصراصير عملاقة.غير أن المكان لم يفقد سحره بالكامل.‏

إميلي نوتومب المشهورة بغزارة إنتاجها حيث اعتاد سكان باريس على قراءة روايتها الجديدة في خريف رغم تباين مستويات أعمالها إلا أنها أصبحت تقليداً أدبياً معتاداً عليه.‏

وبيوغرافيا الجوع أي هذه الرواية هي عملها لعام 2006 وفي عام 2007 استقبل قراؤها روايتها (يوميات سنونوة) حيث تصر على الغرف من طفولتها الخصبة وبنهم شديدة لإعادة بناء الأشياء لهذا تصر على الاعتراف: الجوع هو أنا.‏

وأعمالها نموذج مثالي وثري للإنسان الذي يعاود الرحلة, إلى فردوس طفولته لهذا لا نتفاجأ ونحن نقرأ في الفصل 58 من الفصول الأخيرة من روايتها وهي تقول: (عندما بلغت الحادية والعشرين, وفور نيلي الإجازة في الفلسفة,ابتعت تذكرة ذهاب إلى طوكيو).‏

**‏

رواية: اميلي نوتومب, ترجمة: بسام حجار صادرة عن المركز الثقافي العربي في 239 صفحة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية