تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نحن والماضي

آراء
الاربعاء 31/10/2007
أ. د. يوسف سلامة

تشير كلمة (النحن) هنا إلى مجموعة بشرية تنظر إلى نفسها على أنها متجانسة أو شبه متجانسة نتيجة لما يربط بينها من أفكار وقيم وثقافة ولدت في الماضي وما يزال تأثيرها مستمرا حتى الحاضر, وربما استمر تأثيرها إلى المستقبل القريب أو البعيد.

أما كلمة (الماضي) فتشير إلى نوعين من المفاهيم متداخلين ومتكاملين كل التداخل وكل التكامل,فالماضي يشير أولا وقبل كل شيء إلى جملة الوقائع التاريخية التي ارتبط وقوعها بهذا (النحن) الذي نتحدث عنه هنا, ولكن لما لم تكن كل عناصر الماضي حية ومتساوية في تأثيرها على (النحن) في الحاضر, فإنه يصبح من الممكن أن نطلق على العناصر غير المؤثرة أو المحايدة من وقائع الماضي (اسم التاريخ) بينما نطلق اسم (التراث) على مجموع الوقائع والأحداث والقيم و الأفكار اللاهوتية والفلسفية وجملة العناصرالثقافية الأخرى لكونها ما تزال تلعب دورا مؤثرا في الحياة الراهنة للنحن.‏

ومن الممكن لهذا الدور أن يتراوح بين القيد الذي يمنع النحن من امتلاك درجة مناسبة من الحرية باتجاه التراث, وبين النظرة الأقل تشددا التي تتيح للنحن أن ينخرط في صورة إعادة النظر في هذا التراث والوقوف منه موقفا نقديا.‏

ولو أننا نظرنا في علاقة (النحن العربي) بتراثه, لوجدنا أنه لا يكاد يكون لهذا النحن تراث, وذلك لأن الماضي كله أو التاريخ كله ينظر إليه باعتباره حيا ومؤثرا وفعالا وراهنا من جانب العدد الأكبر من القطاعات المكونة لهذا النحن, ومن هنا فلا يكاد يكون لدى العرب تمييز بين التراث والتاريخ, وذلك لأن الماضي كله وبكل أحداثه ينظر إليه نظرة تقديس واحترام تجعله منجاة من النظر إليه نظرة نقدية, أو من خضوع بعض أجزائه للمراجعة والشك والارتياب سواء في قيمة الوقائع أو الأفكار ذاتها أو في التشكيك بحدوث بعض الوقائع من الناحية الفعلية ضمن التاريخ الذي سطره المؤرخون العرب الأوائل.‏

من هنا تصطدم عملية نقد التراث بنقد الماضي كله, ومن هنا يتشكك عدد كبير من الذوات المكونة للنحن في شرعية أي نقد يمكن أن يوجه لهذا الماضي, ذلك لأن من شأن هذا النقد في نظر هؤلاء أن يطيح بالقاعدة التاريخية لوجود النحن, طالما أن هذه القاعدة تشمل كل عناصر الحياة العربية بعجرها وبجرها, وهكذا يتحول الخوف من فقدان الماضي إذا ما تعرض لنقد إلى خوف على الحاضر يتمثل في قلق (النحن) على أن يصبح معلقا في الهواء مقطوع الجذور محروما من كل رابطة أو قاعدة روحية تمتد إلى ماوراء الحاضر الذي يعيشه (النحن) بصرف النظر عما إذا كان هذا الحاضر مشرقا أو غير مشرق.‏

ومن أمثلة هذا الخلط بين الماضي والتراث أو بين التاريخ والتراث هو أن كثيرا من الوقائع التي حدثت منذ نحو أربعة عشر قرنا ما تزال مؤثرة في حياة أكثريتنا حتى اليوم مع أن أمثال هذه الحوادث لدى الأمم الأخرى لم تعد تزيد عن كونها أحداثا تهم المؤرخين لا كل المؤرخين بل المؤرخين المتخصصين في هذه الحقبة أو تلك, وفي هذا السياق فإن كثيرا من فصول النزاع على السلطة في التاريخ العربي قد تحولت إلى رموز روحية واكتسبت دلالات أخلاقية ولاهوتية, مع أنها في الحقيقة لا تزيد على كونها نزاعات دنيوية رام كل المشتركين فيها نصيبا أكبر من الدنيا, ولكن هذه الأحداث قد اكتست كل هذه القيمة نتيجة للغطاء الإيديولوجي الكثيف الذي حجب حقيقتها الدنيوية, وهكذا فإن تحول الدنيوي إلى لاهوتي خلع على الحدث قيمة استثنائىة مع أنه لم يكن كذلك في الأصل, كما أن هذا الفعل نفسه قد ألغى الحدود الفاصلة ما بين التاريخ والتراث, أي ما بين السياسة والثقافة بمعنى ما من المعاني.‏

فإذا كان جانب كبير من الماضي واقعا ضمن نطاق الحياة السياسية وكان يجب أن يفنى بفناء المتصارعين على الفوز بخيره دون شره, فإن خلع الصفات اللاهوتية على هذه الصراعات السياسية والدنيوية قد أدى إلى ضياع الحدود الفاصلة التي يمكن لها أن تميز حقلين مختلفين وإن كانا متداخلين, هما حقل التاريخ وحقل التراث.‏

وما ترتب على هذه الوحدة أو هذا الالتباس بين التاريخ والتراث أن أصبح الماضي كله مقدسا ولم يعد من الممكن وضع هذا الماضي موضع البحث والتساؤل أو موضع النقد والتقويم, ذلك لأن من شأن نقد الماضي وتقويمه تقويض كل عناصره دفعة واحدة في نظر الكثيرين, وهذا أمر غير مطلوب ولا مرغوب فيه, المطلوب هو شيء واحد هو نقد التراث الذي هو عمل من أعمال الفلاسفة بصورة أساسية, وتدوين التاريخ بأكبر قدر من الموضوعية وهو شأن من شؤون المؤرخين حصرا.‏

ولعل هذا التداخل ما بين التراث والتاريخ هو ما يفسر لنا أن جملة الكتب التي ناقشت (تراثنا) قد استغرق التاريخ معظم صفحاتها, بينما لم تحظ المشكلات المتعلقة بالتراث بصورة أساسية إلا بقدر ضئيل من صفحات هذا الكتاب أو ذاك.‏

ولكن من الذي يستطيع أن يفصل بين التاريخ والتراث? هل هناك سلطة أدبية أو فلسفية أو سياسية تستطيع أن تقرر ذلك أم أن الأمر مرهون بمجموعة من العوامل خارجة عن نطاق وسيطرة واختيار جميع الأفراد المعنيين بالأمر?‏

مما لاشك فيه أن تشابك العوامل التي تحكمت بتطور التاريخ العربي طيلة أربعة عشر قرنا هي التي أنتجت هذا التداخل بين التاريخ والتراث ما جعل الشروع في أي عمل نقدي أمرا محفوفا بالمخاطر والمصاعب, ولعل العامل الأساسي الذي لعب الدور الأبرز في كل ذلك هو العامل اللاهوتي, فبدلا من أن يكون هذا العامل جزءا من الماضي العربي وحده فهو الذي يمكن نقده, وما لم يتمايز التراث عن التاريخ فستظل هذه العقبة عقبة التقديس واللاهوت, تحول بيننا وبين أي نقد جذري لتراثنا الذي علينا أن نواجهه بالنقد دون e.mail:salamah@scs-net.org‏

">إبطاء.‏

e.mail:salamah@scs-net.org‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية