|
فضائيات ( هنا أيضاً أستطيع إيجاد مكان لنفسي, هؤلاء الرهبان يبدون مثل الفيالق, وسأتمكن من أن أصبح رئيسهم).هكذا بدا صدام حسين في القفص الخشبي المنسجم مع بقية ديكور المشهد , بدا وقد وجد مكاناً لنفسه: رئيساً ( لسبعة متهمين آخرين) كما تصفهم الأشرطة الإخبارية ( مجرد آخرين) ممثلين ثانويين, يقفون احتراماً عند دخول النجم الرئيسي, يوافقونه ما يقول ويكاد يأخذهم التصفيق, يخطف أحدهم المشهد أحياناً , كما فعل برزان التكريتي في الجلستين الأخيرتين, وألقى مداخلات وخطباً قد تكون استأثرت باهتمام الجمهور, ما سيؤهله لدور بطولة في محاكمة أخرى قد تكون خاصة به. وكما أن المنتج لا يمكن أن يجد أفضل من اسماعيل ياسين لبطولة فيلم اسمه ( اسماعيل ياسين في الجيش) فالمنتج هنا لا يمكن أن يجد أفضل من صدام حسين لبطولة مسلسل اسمه ( محاكمة صدام حسين وسبعة من معاونيه عن أحداث الدجيل عام 1982) . والمنتج الذي يملك نجماً كبيراً , ليس بحاجة لحدث مشوق ولا لحبكة متقنة, لذلك تصلح يسرا لتسويق أي هراء على شاشات رمضان, ويصلح صدام حسين لبطولة عمل تلفزيوني, يفضل أن تكون أحداثه في محكمة , ولا يهم هنا أن تكون المحاكمة حول أي من المليوني ضحية خلال عشرين عاماً ( بين قتيل ومفقود ومهجر), لا يهم أن تدور المحاكمة حول أسماء مألوفة مثل حلبجة أو الأنفال . لدينا صدام حسين هنا, 143 قتيلاً كافية لصنع فرجة تلفزيونية , هكذا قال المنتج - ربما- لنفسه ولمساعديه , وأجل الأحداث الأهم حتى يبهت بريق البطل النجم,ويخف زخم المشاهدة, عندها سنخرج من الكيس حكاية أخرى , حكاية أكثر تشويقاً , وأكثر شهرة, ونستعيد جمهورنا. ديكور المحكمة مدروس بعناية,يشبه في جزء منه مشهد المحكمة الشهير في مسرحية عادل إمام, وفي جزء آخر يشبه تلك التي نراها في الأفلام الأميركية. قفص المتهمين ليس قفصاً بالمعنى المألوف, بل مجرد رمز خشبي واطئ, يجلس فيه المتهمون بتراتبية تنتمي لزمن مضى, أمام كل منهم شاشة ولاقط صوت. هناك أكثر من كاميرا في القاعة, لكن حركتها تخلو من الرشاقة, تركز أحياناً على وجه القاضي فيما نسمع صوت برزان, وتتحرك ببطء غير احترافي لتوحي أن العمل ليس تلفزيونياً تماماً. المشاهد تتعرض أحياناً لعملية مونتاج, يختفي الصوت( لخروج إحدى الشخصيات عن النص المطلوب) يحاط بعض الشهود بالغموض عبر إخفائهم خلف ستارة زيادة بالتشويق, القاضي يستخدم كلمة استراحة بدلاً عن فاصل إعلاني. المهارة في اختيار وجه القاضي تكشف احترافية صانعي العمل, وجه أريد له أن يعبر عن صورة العراق الجديد, وجه سمح لطيف, يحمل خلفه القاضي رزكار أمين صاحب أطول روح في العالم, يستمع للجميع ويستوعب الجميع, يحافظ على نبرة صوته الوديعة ويبتسم كلما أتيح له. في المشهد الأول( المفتاح) وبدلاً من أن يسأل المتهم الأول عن اسمه وعمره وعنوانه كما هي العادة, سأله القاضي عن هويته, فالتقط المتهم الصفقة, وفهم أن بإمكانه الاستفادة من العدسة المنصوبة فوق رأسه وسرد نصه الخاص, مقابل استمرار مشاركته في الحلقات التالية من العمل التلفزيوني الضخم ( كلف الأميركان 128 مليون دولار حتى الآن حسب هيومان رايتس ووتش) وانطلق يعرف بنفسه بخطبة قومية مؤثرة , بل وحسن أدواته في الحلقات التالية, محدداً بدقة الجمهور الذي يتوجه إليه , فاصطحب معه مصحفاً ( تروى عنه أساطير مثل أن رصاصة أميركية اخترقته دون أن تمس حرفاً منه) وذكر المحكمة بمواعيد الصلاة, ونوه في كل مناسبة إلى تمسكه بأهداب الدين داعياً المحكمة لتحذو حذوه . مع الحلقات التالية انخرط الجميع في اللعبة , المتهمون والشهود والمدعون ,استمرؤوها واكتفوا بمساحة البث المخصصة لكل منهم. ووصل الأمر إلى حد أن المتهمين احتجوا في حلقة الأربعاء الماضي على انقطاع الصوت أثناء مداخلاتهم, وهددوا بالانقطاع عن حضور الجلسات إذا تكرر هذا التمييز, مطالبين بحق المعاملة بالمثل مع باقي الشخصيات. لم يعد مهماً تقييم المحكمة وأقوال الشهود والقانون, المهم مساحة الدور, وطول لقطة (الكلوز). عبد الحق العاني, أحد محامي صدام قال قبل الجلسة الأولى:( الأميركان ينوون جعلها مسرحاً خالصاً , إنها محاكمة استعراضية). |
|