تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


علــــى هامـــــش نـــــدوة أبـــــي العــــــلاء المعــــــري..النزعــة الإنســـانية هويــــة إبداعيـــة

ثقافـــــــة
الأحد 19-5-2013
 دائرة الثقافة

وأخيراً قررت وزارة الثقافة أن تقيم ندوة حول أبي العلاء، وهذا فال خير وعمل جيد، أبو العلاء لو كان في أي تراث غير العربي لجعلوا منه نبياً وترجموا إبداعه إلى كل لغات العالم،

لما فيه من إنسانية رائعة اليوم نعيد من مهرجانه ما قدمه ابراهيم عبد القادر المازني حول النزعة الإنسانية في إبداعه‏

ويقارن ذلك مع الذين يدعون أنهم إنسانيون في ابداعهم ويرى أنه قيل إن علة العلل هي عماه.. وإن هذه المحنة هي التي حملته على التزهد وإيثار العزلة ورياضة النفس على الكفاف وأن آفته هذه هي مفتاح شخصيته فلا سبيل إلى فهم المعري على حقيقته إلا إذا رددنا كل عمل أو قول له إلى هذه المصيبة التي أصابته في طفولته لغير ذنب جناه.‏‏

وغير مردود ولا منكور إن ذهاب البصر محنة ولا سبيل إلى الشك في أن المكفوف لا يسعه إلا أن يشعر بما حاق به من المكروه وما حرم من المزية وإلا أن يألم ويأسف ويتحسر ويتلهف وإن أظهر الجلد وأبدى التشدد ولا يمكن أن تخلو خسارة هذه الجارحة النفيسة من أثر عميق في نفس المرء وتفكيره واتجاه عقله ونوع احساسه بالحياة والناس.‏‏

كل هذا مسلم لا خلاف عليه فما يستوي أن تكون أو لا تكون للإنسان هذه الجارحة وإلا كان خلقها عبثاً وتزايداً لا داعي له ولكني لا أرى رأي القائلين برد كل شيء إلى فقدانها ولا أنها هي مفتاح شخصية المعري فليس من الحتم أن يحدث ذهاب البصر هذا الأثر وقد عمي بشار جنينا ولم ير ضوء النهار وتحسر وتألم ونقم وسخط ولكنه لا تزهد ولا اعتزل بل نزل إلى المعترك وخاض الغمار وضرب في الزحمة وكان حيواناً كبيراً وروى بيرك الأديب الانجليزي المشهور في كتابه «الجليل والجميل» أنه يعرف عالماً أعمى كان أستاذاً.‏‏

المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري‏‏

لقد ولد مكفوفاً وقرأت منذ شهور كتاباً اسمه «العالم تحت أناملي» لكاتب أميركي حديث اسمه «كارستن أونستاد» ذهب بصره وهو طالب في مدرسة عالية أي بعد أن أمتع بنعمة البصر نحو عشرين عاماً فالخسارة أفدح والحرمان أوجع وقد ترجم في هذا الكتاب لحياته ووصف ما كان من أمره بعد هذه المحنة وكيف غالبها فغلبها وهو لا يعتمد إلا على العصا ولا يحتاج إلى من يأخذ بيده ويقوده ولا يرضيه إلا أن يعامله الناس كأن ليس بينه وبينهم فرقاً فلا هو أعمى ولا هم بصراء دونه وكيف كان يشارك الطلبة في ألعابهم ومغامراتهم حتى الزحلقة على الثلج في الجبال.‏‏

وعندي أن ذهاب البصر لا يورث صاحبه ما عزوه في المعري إليه إلا إذا اجتمع أمران على الخصوص: حس مرهف دقيق في المكفوف ومجتمع لا يزال يشعره أنه مكفوف كأن يبدي العطف عليه أو يعيره أو يتعجب لما يكون منه مما يعد مستعصياً أو مستكثراً على مثله واحسب أن عامل المجتمع أقوى الاثنين فإذا تلقى الناس الكفيف على نحو طبيعي وعاملوه كأنه مثلهم بلا فرق ونزهوه عن العطف والتغيير والتعجب فإن أثر العمى في نفسه على الرغم من دقة الشعور به يمكن أن يخف جداً لأن الجماعة تصبح عوناً له وتشجعه على مغالبة رزئه والتغلب على قيده وتقيه بسلوكها نحوه من التهويل بمصابه على نفسه.‏‏

ومن المحقق على كل حال أن ذهاب البصر ليس هو الذي حمل المعري على اعتزال الناس ورفض الحياة وإيثار الوحدة والعزوبة وكراهة أكل اللحم وذبح الحيوان والطير ولو شاء المعري لتولى القضاء في المعرة أو حمص كما تولاه أبوه أبو محمد عبد الله وعمه أبو بكر محمد وجده سليمان وابن أخيه أبو اليسر ولو شاء لما حرم نفسه طيبات ما أحل الله بل لو شاء أن ينهز مع الغواة بدلائهم ويسيم سرح اللهو مثلهم لفعل فما حال العمى أو الصم أو الكساح بين أحد وبين ما يشتهي من ذلك فإذا قيل إنه كان حساساً جداً وإنه يستنكف ويكره لنفسه أن يراه أحد خفيف الحلم أو على حال تزرى به وأن شعوره بكرامته كان يأبى له أن يطلب فيمنع ويشتهي فيحرم قلنا إن هذا ليس من العمى بل من دقة إحساسه المرهف وفرط شعوره بنفسه.‏‏

أبو العلاء شاعر إنساني‏‏

ودع هذا واسأل ماذا حرمه العمى؟ إنه شاعر أديب وعالم متفلسف وقد عرف له أهل زمانه ومن جاء بعدهم من الأجيال غزارة الفضل ووفرة العلم وحدة الذكاء وسعة الاحاطة باللغة والحذق بالنحو وجودة الشعر والالمام بكل علم معروف في عصره وكان تلاميذه يعدون بالمئين ويزحمون داره ولما مات أنشد على قبره المراثي أربعة وثمانون شاعراً فهو قد فاز في حياته بالحظ الأجزل من الشهرة والتوقير ولا يزال إلى يومنا هذا في المحل الأول والأرفع بين شعراء العربية، أما فيما عدا ذلك مما هو من الحياة الخاصة الشخصية فما حرم شيئاً أو كانت الآلة تعوزه فيه كما يقول وإنما حرم هو نفسه وآثر لنفسه العزوف وأبى عليها كل متعة فالأمر مرجعه إلى إرادته لا إلى عماه.‏‏

وإذا قلنا ارادته فقد قلنا ما ينزع به إليه مزاجه السوداوي الخاص وما بني عليه من الطباع وهذا عندي هو مفتاح شخصيته والذي أراد إليه ما كان من سيرته وقد جاءت عوامل أخرى فقوت استعداده الخاص فقد نشأ في بيت علم وفضل وتقوى وكانت لأسرته مكانة عالية ومنزلة ملحوظة في بلدته الصغيرة وحسبك من شعوره بكرامته وكرامة بيته في هذا البلد أنه وهو عائد من بغداد بعث إلى أهل المعرة بكتاب ينبئهم فيه أنه اعتزم أن يلزم داره ويعتزل الناس كما يفعل الحاكم أو القائد حين يقدم على بلدة فيدع كتابه أو «منشوره» يسبقه إليها ببلاغ منه وكان هو إلى ذلك عالماً ضليعاً وأديباً رفيعاً.‏‏

فاجتمعت له كرامتان: كرامة علمه وأدبه وفضله وكرامة بيته وآله وخلق حساساً جداً حتى لكأنما يحس الدنيا بأعصاب عارية لا يسترها لحم ولا يقيها جلد فهي أبداً مكشوفة معرضة للمؤثرات مباشرة ولهذا كان يخجل أن يرى وهو يأكل مخافة أن يرى منه ما يعاب ومثله يحرص على اجتناب ما يعرضه للمهانة أو الزراية أو السخرية ومن هنا لجاجته في تنقص نفسه وقوله إنه كلب لئيم وإنه جاهل وناقص وإنه أعمى ضال كأنما يريد لفرط شعوره بذاته أن يسبق الناس إلى ذمه ولا يدع لهم ما يقولون فيه أو يعيبونه به ومثله ينزع إلى العدل والانصاف لأن الانصاف سبيل النجاة والأمن لمن كان يفطن فطنته إلى مواطن ضعفه وقصوره ويحس بها إحساسه حتى لقد عرف الدين بأنه.‏‏

إنصاف الناس ولا عجب بعد ذلك أن يكون رقيق القلب رحيمه وان كانت رحمته مفرطة حتى ليقشعر بدنه حين يقدمونه له فروجاً أوصى له به الطبيب في مرضه ويقول: «استضعفوك فوصفوك فهلا وصفوا شبل الأسد؟» وقد ثقلت عليه محنة العمى وشقت جداً لأنها ظلم حاق به بغير ذنب فظل ثائراً على هذا الظلم كثورته على كل مظاهره الأخرى في الحياة ولم تكن ملازمته داره واقتصاره على أكل البقول ونفوره من اللحم إلا ضرباً من التحامل على النفس وتعذيبها لا يستغرب فإن تعذيب النفس نوع من إثبات القوة فكأنه لما أنس من نفسه العجز عن أن يكون ذا بأس وصولة بين الناس تحول إلى نفسه وحمل عليها وعالج رياضتها لينعم بالشعور بالقوة والاقتدار وكل امرئ ينزع بطبعه إلى تعويض النقص الذي يعرفه أو يحسه ولو إحساساً غامضاً، وتلك حقيقة لا تحتاج إلى بيان وأحسب أن مما يجري هذا المجرى شدة تكلفه في اللزوميات وإلزامه نفسه فيها ما لم يلزم أحداً وإكثاره من الغريب فيها وفي نثره وتحريه الوحشي وغير المأنوس من الألفاظ حتى كتاب «الفصول والغايات» جعله فصولاً غاياته أحرف مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة.‏‏

وذلك كله لإثبات القدرة والرسوخ في العلم والاستبحار فيه بل التفوق والتميز وهنا موضع سؤال: لماذا أحب المعري أبا الطيب المتنبي كل هذا الحب؟ وأعجب به وأكبره إلى هذا الحد؟ حتى تعرض للأذى من أجله؟ وألف فيه كتاباً سماه «معجز أحمد؟» لقد كان يتعصب له تعصباً عجيباً وليس هو بالذي يخفى عليه أن هناك شعراء آخرين لا يقلون عنه شأناً وأن معاني المتنبي ليست كلها مما ابتكر وأن كثيراً منها يوجد في أشعار غيره ولقد ألف في أبي تمام كتاباً سماه «ذكرى حبيب» فما سر هذا التعصب المفرط؟‏‏

عندي أن السر هو شخصية المتنبي لا شاعريته فقد كان المتنبي يمثل كل ما ينقص المعري أو ما يحس المعري أنه ينقصه: الجرأة والإقدام والثقة بالنفس والاطمئنان إلى صواب ما يرى والجزم في الأمور والفحولة التي تخرج المعنى مخرج المثل السائر وتجعل منه عملة وعلى الخصوص اليقين الجازم والثقة بالنفس وانتفاء الحيرة والاقتناع بأن فهمه للناس وللحياة.‏‏

صحيح لا يرتقي إليه الشك وكل هذا ينقص المعري فهو أبداً مضطرب لا يستقر وحائر لا يهتدي لا يطمئن إلى رأي ولا يثق بصواب ولا يرضى عن نفسه ولا يحول عينيه عما يدركه من قصورها وعيوبها يحس أن في وسعه أن يجترئ ويلقي بنفسه في عباب الحياة ويفرق تياره إلى حيث يتطلع ويرجو أو يراه من حقه.‏‏

وأحسب أن كل من قعد يفكر ويتدبر على نحو ما يفعل المعري لابد أن يضطرب اضطرابه ويضل ظلاله ويقع في مثل حيرته فإن هذه أمور أشكال لا سبيل إلى الاهتداء فيها إلى ما يقنع العقل وليس المعري يبدع في هذا فإن له أنداداً كثراً في الشرق والغرب.‏‏

ولقد كنت منذ أيام أراجع رواية هملت لشكسبير الشاعر الانجليزي فإذا بي أقرأ لهملت وهو واقف مع حفاري القبور وفي يده جمجمة «أتظن أن الاسكندر كان هذا منظره في الأرض؟».‏‏

فيقول رفيقه هوراشيو «تماماً».‏‏

فيقول هملت «وكانت له هذه الرائحة؟ أف».‏‏

هوراشيو «كذلك يا سيدي».‏‏

هملت «إلى أي درك نصير يا هوراشيو.. لماذا لا يتعقب الخيال رفات الاسكندر النبيل حتى يجده يسد ثقب برميل؟... مثلاً: مات الاسكندر، دفن الاسكندر، عاد الاسكندر تراباً، والتراب من الأرض، ومن الأرض نصنع الصلصال، ومن هذا الصلصال الذي تحول إليه ماذا يمنع أن يصنعوا منه ما يسد برميل بيرة؟».‏‏

فأذكرني هذا قول أبي العلاء:‏‏

إذا غدوت ببطن الأرض مضطجعاً‏‏

فثم أفقد أوصابي وأمراضي‏‏

تيمموا بترابي علّ فعلكم‏‏

بعد الهمود يوافيني بأغراضي‏‏

وإن جعلت بحكم الله في خزف‏‏

يقضي الطهور فإني شاكر وراضي‏‏

والبيت الأخير هو الشاهد‏‏

وتأمل صيحة هملت بأوفيليا حبيبته‏‏

«إلى الدير.. لماذا تريدين أن تكوني أما لآثمين؟ إني أنا نفسي رجل شريف إلى حد ما. ومع ذلك أستطيع أن أتهم نفسي بأشياء يبدو معها أنه كان خيراً لو لم تلدني أمي. وأنا رجل متكبر جداً وبي من المغريات بالشر فوق ما يحيط به الفكر ويصوره الخيال أو يتسع لارتكابه الزمن. ماذا يصنع أمثالي وهم يزحفون بين الأرض والسماء؟ إننا جميعاً أوغاد أشرار. فلا تصدقي أحداً منا».‏‏

ثم يقول لها «إذا كان لا بد لك من الزواج فتزوجي مغفلاً. فإن العقلاء يعرفون كيف تخلينهم وحوشاً شنيعة». إلى الدير. اذهبي بسرعة».‏‏

وأما أكثر ما أبدا المعري وأعاد في هذه المعاني. وما أشبه رأي هملت في المرأة برأي شاعرنا الذي يعد النساء فوارس فتنة وأعلام غي.‏‏

وتأمل مناجاة هملت لنفسه «تكون أو لا تكون؟ هذه هي المسألة». وهي مشهورة. يقول فيها إن الموت رقدة تنتهي بها آلام القلب وجراح الجسم وأوجاعه كما يقول المعري «إنما الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد» ولكن الموت قد تتخلله الأحلام. فأي أحلام نراها يا ترى إذا سلبنا الحياة كما يتساءل المعري كيف لي بمخبر يعتام نفائس ما أحرز عليه. يعلمني بعد الموت كيف أكون؟» وكما يقول:‏‏

وبين الردى والنوم قربى ونسبة‏‏

وشتان برء للنفوس وإعلال‏‏

إذا نمت لاقيت الأحبة بعدما‏‏

طوتهم شهور في التراب وأحوال‏‏

وكما يسأل:‏‏

سبحانك مؤبد الآباد‏‏

هل للمنية نسب إلى الرقاد؟‏‏

ولا يزال هملت يلهج بمحنة الحياة. وسهام القضاء. وسياط الزمن وظلم الظالمين. وصلف المتكبر. وبطء تحقيق العدل. ووقاحة ذوي الأمر وبغيهم واحناء الظهر تحت أثقال الحياة، واحتمال ذلك الشقاء فزعاً مما بعد الحياة ومن بعدها مجاهل لم يعد منها مسافر. وهذا خوف يفل العزم ويغري المرء بالرضى بآلام يعفها واتقاء ما يجهل -وذلك كله ما كان يلهج به المعري.‏‏

ويتكرر مثل هذه الآراء في الناس والحياة ومصائر الخلق في روايات أخرى مثل تيمون الأثيني وماكبث والملك لير وغيرها.‏‏

وندع شكسبير وما يجريه على ألسنة أبطاله. وننتقل إلى جوتيه الشاعر الألماني وروايته فوست على الخصوص. وهي كما وصفها الشاعر «جولة بين الأرض والسماء» وفوست رمز للإنسان الذي ينشد المعرفة ويبني أن يحيط علماً بسر الحياة وقد وجد أن المعرفة المستفادة من بطون الكتب التي كان يعكف عليها لا تفيده يقيناً ولا تكشف له عن سر ولا تبيحه مجهولاً أو مغيباً. وقد بلغ من يأسه أن باع الشيطان نفسه. وعاهده أن يسلمه روحه إذا وسع إبليس أن يفيده الدعة والاطمئنان واليقين فبدأا معا رحلة طويلة لا داعي لوصف مراحلها فإن القصة معروفة وقد ذاق في رحلته مرارة الندم وضاق به الفضاء الرحيب فالتمس ما وراء ذلك لعل الخيال يغني حيث لم تغن الحقيقة. وقد أعياه على الرغم من مقدرة الخيال أن ينحي الأستار المسدلة. ولم يجده رفع طرفه إلى السماء ومحاولته أن يطوف في الأبد ويجوبه. ولم يقنعه أن يتقبل الحياة كما تجيء وإن كانت لا ترضيه. وأشقاه عقله الذي طغى على نفسه ولم يستفد إلا الحيرة اللازبة وإدراكه مبلغ جهله، ولم يصل إلى شيء من ثالوث أفلاطون -ثالوث الحق والجمال والخير- واستعان بالشيطان على ضعفه البشري فآب بالندامة والخسارة.‏‏

وليست هي إلا قصة أبي العلاء في حيرته ونشدانه الحقيقة واليقين في كل ما يستجليه ويفكر فيه. بل قصة كل مفكر من بني الإنسان في هذا العالم.‏‏

وقد ترجمت منذ ربع قرن وزيادة قصة روسية اسمها «سانين» وقد سميتها ابن الطبيعة. وهي لها ترب شيق. ومن أشخاصها من يدعى يورى يشهد جنازة منتحر فيستهول أنه لم يعد موجوداً. وأنه كان شيئاً فأصبح لا شيء. ذهب كالتراب المكنوس ولم تبق منه إلا القبعة على النعش. ويفتح الانجيل فيقرأ فيه أن من يهبط إلى الأرض لا يصعد أبداً فيقول:‏‏

«ما أصدق هذا وأحكمه. حلم فظيع. هذا أنا أعيش ويلج بي الظمأ إلى الحياة واللذات. ثم أقرأ هذا القضاء المبرم ولا يسعني حتى أن أحتج عليه».‏‏

ويناجي القوة الخفية فيقول:‏‏

«ماذا جنى الإنسان عليك حتى تسخري منه هذا السخر؟ إذا كنت موجودة فلماذا تخفين نفسك عن عينه؟ لماذا تجعلينني إذا آمنت بك لا أؤمن بايماني؟ (كأبي العلاء تماماً) وإذا أجبتني فكيف أعرف أأنت المجيبة أم نفسي؟ وإذا كنت على حق في رغبتي في الحياة وطلبي لها فلماذا تسلبيني هذا الحق الذي منحتني إياه؟ إذا كانت بك حاجة إلى آلامنا فدعينا نحملها من أجل حبنا لك. ولكنا لا نعرف أيهما أعظم قيمة: الشجرة أم الإنسان. إن الشجرة دائمة الأمل. إذا قطعت استطاعت أن تقوم مرة أخرى وأن تسترد الخضرة وتفوز بحياة جديدة. أما الإنسان فيموت ويزول يرقد فلا ينهض مرة أخرى. ولو أني كنت على يقين من أني سأحيا مرة ثانية بعد ملايين السنين. لرضيت أن أنتظر في سبر كل هذه القرون في الظلام».‏‏

وهذه معان تقرؤها كلها في المعري نثراً وشعراً فقد مزق قلبه بها طول حياته.‏‏

ومما يستحق الذكر أن بطل هذه الرواية «سانين» يبدي رأياً في يورى هذا الذي يعذب نفسه بالتساؤل الذي لا يجدي. فكأنه يبديه في المعري وذلك حيث يقول: «إن الإنسان لا يمكن أن يكون فوق الحياة لأنه جزء منها وقد يسخط ولكن مرجع السخط إلى نفسه. فهو إما لا يستطيع أو لا يجرؤ أن يأخذ من خيرات الحياة ما يسد حاجته. ومن الناس من يقضون حياتهم في السجون. وهناك آخرون يخافون أن يفروا منها كالطائر الأسير يفرق في الطيران إذ يطلق له والجسم والروح يكونان كلاً متجاوباً لا يزعجه إلا دنو الموت الرهيب. ولكنا نحن نقضي على هذا التلاؤم بسوء فكرتنا عن الحياة. فقد زعمنا أن رغباتنا الطبيعية حيوانية. وصرنا نحس العار والخجل منها ونخفيها في صور وضيعة والضعاف منا لا يفطنون لهذا بل يقضون حياتهم في الأغلال المضروبة عليهم. أما الضحايا فأولئك الذين تقعد بهم آراؤهم المقلوبة. ولا شك أن القوى المحبوسة تتطلب منفذاً. وإن الجسم ينشد السرور واللذة. وإنه يتعذب من جراء عجزه وقصوره. فهؤلاء وأمثالهم حياتهم صراع دائم. وشك مستمر يتعلقون بكل ما يقدرون أن يعينهم ويفضي بهم إلى نظرية أخلاقية أحدث وأجد. ولا يزالون كذلك حتى يعودوا وهم يخافون أن يعيشوا ويحسوا».‏‏

هذه حال المعري وصفها أديب روسي على لسان شخص أصدق وصف. أراد أن يحلق فوق الحياة فعجز. لأن ذلك مستحيل لا يستطيعه إنسان. وتهيب الحياة ففر من ميدانها. وخاف نفسه فألجمها وألزمها القيد فانتقمت منه وثأرت لنفسها القوى التي حبسها وسد عليها كل فج. فتعذب وراح يتساءل لمَ ولماذا؟ ويبحث عن الحق والخير والعدل. ويحاول أن ينفذ ببصيرته من أستار غيب الله المسدلة وهي كثيفة فما اهتدى إلى شيء يستريح إليه العقل وتطمئن به النفس. وصار كما يقول بطل هذه القصة يخاف حتى أن يعيش ويحس.. لأنه يتألم. ولأنه يجهل المصير.‏‏

وبعد فإن مجال الكلام ذو سعة. ولكني لست الوحيد الذي قال أو يقول في أبي العلاء. وليس من حقي ولا في مقدوري أن أحاول الاحاطة بكل جانب وأن ألم بكل ناحية. فحسبي ما قلت على القصور فيه والعجز. وإني لشاكر لكم صبركم وسعة صدركم. ومعتذر إليكم من التقصير. والسلام عليكم.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية