|
شؤون سياسية ويبدو أن النصف الثاني من القرن العشرين قد أكمل اتجاهاً أحدثته الحرب العالمية الأولى وهو تفتيت عدد من الامبراطوريات الكبرى هي الامبراطورية العثمانية التي لعبت دوراً رئيسياً في سياسات الشرق طوال ثمانية قرون, كما تفككت الامبراطورية النمساوية المجرية إلى دولتين هما النمسا والمجر. أما الامبراطورية الروسية فلم تتفكك إنما حلت موسكو محل بطرس برغ كعاصمة للاتحاد السوفييتي, الذي ضم مناطق أخرى لم تكن جزءاً من الامبراطورية الروسية, لكن الامبراطورية السوفييتية كانت أكثر اتساعاً من الامبراطورية الروسية. وبعد الحرب العالمية الثانية شهدت أوروبا قيام الاتحاد اليوغسلافي ومحاولات الوحدة العربية. غير أنه في أواخر الثمانينات من القرن العشرين بدأت موجة التفكيك بانهيار الاتحاد السوفييتي, ثم الاتحاد اليوغسلافي, وما أعقب ذلك من حروب وصراعات عرقية ودينية وتطوير لحق تقرير المصير الذي كان من المقرر في البداية للاعتراف بالهويات الدينية والعرقية وكان يهدف من نظرية الرئيس الأميركي ولسون عام 1914 إلى تفجير الامبراطورية العثمانية, وهو ما حدث بتشجيع القومية الطورانية وتخليص تركيا من جسدها الامبراطوري الذي رأى أتاتورك أن هذا الجسد هو الذي طغى على القومية الطورانية وأعاقها عن الانطلاق والالتحام بانتمائها الأوروبي التلقائي حسبما أشار أتاتورك في مذكراته. ورغم أن المجتمع الدولي لا يزال يصر على أن الدولة هي النواة الأساسية للنظام الدولي وأن المحافظة عليها هو من أهم شروط الاستقرار في العلاقات الدولية وهو ما ترجم في الإطار الأفريقي بمبدأ قدسية الحدود وعدم قابليتها للمراجعة وهو ما حافظ حتى الآن على وحدة الدولة الأفريقية ضد محاولات الانفصال, إلا أن الظاهرة الحديثة, وهي تفتيت الدول, انطلقت بسرعة كبيرة خلال العقد الماضي بحيث يمكن القول إن العقد القادم سوف يشهد صراعاً بين المبادئ المتعلقة بسيادة الدولة وسلامتها الإقليمية واحترام شؤونها الداخلية وهي مبادئ ميثاق الأمم المتحدة, وبين تيار التفكيك الذي قد يصل معه عدد دول العالم إلى 220 دولة خلال العقد القادم. ولذلك نحاول في هذه المقالة أن نقرأ هذا التيار الذي يخشى أن يصبح ظاهرة عامة, وانعكاساته على المنطقة العربية, وأخيراً أثر هذه الظاهرة على مستقبل النظام الدولي وقسماته التي قد تتطور في المستقبل, فهي إذاً رؤية استشرافية على المدى القصير خلال العقد القادم وهو العقد الواقع بين 2007- 2017 وهو المدى الزمني لكثير من الدراسات الدولية والوطنية التي لم تأخذ في اعتبارها هذه الظاهرة الجديدة وانعكاساتها الخطيرة. وإذا كانت الظاهرة تتكون من أحوال متماثلة, فإن ظروف كل حالة تختلف من حالة إلى أخرى, ولابد من تقديمها حيث يمكن استخلاص القواعد التي قد تحكم هذه الظاهرة. الأصل أن الولايات المتحدة هي التي خططت لتفكيك الدول العربية حتى لا تبقى دولة واحدة قوية تواجه إسرائيل. فقد توجهت واشنطن إلى أقوى أطراف النظام العربي والإقليمي, بدأت بتطويع مصر ثم أقدمت على تقسيم العراق وهي تحاول تقليم أظافر إيران بتطويع النظام أو تغييره أو كسره حتى لا تكون إيران طرفاً ولو بعيداً في الصراع العربي - الإسرائيلي. ومن الواضح أن تفتيت العراق كان متعمداً ولن تكون حالة العراق هي الأخيرة في العالم العربي. ولعل السودان قد أصبح هدفاً للتقسيم بحيث يتصور دعاة التقسيم أن الخرطوم وما حولها أو شمال السودان ستكون عاصمة تاريخية كما حدث مع بغداد, مع فارق واحد, وهو أن واشنطن حاولت تطويع ا لحكومة السودانية, ومع ذلك تقدمت بعد محاولة التطويع إلى تقسيم السودان في هدوء دونما اكتراث باعتراضات الحكومة السودانية. أي أن التطويع ليس بديلاً عن التقسيم خلافاً للنظرية الأميركية التي تزعم أن على الدول المستهدفة أن تختار بين تغيير سلوكها أو تغيير نظامها. والأصل أيضاً أن الولايات المتحدة هي التي خططت لتفكيك الاتحاد السوفييتي, فتفكك على الأثر الاتحاد اليوغسلافي. ولكن تفكيك الاتحاد السوفييتي اعتمد على إثارة النزعات القومية والدينية مما أدى إلى تفجير الامبراطورية السوفييتية من الداخل, ولكن يبدو أن واشنطن لم تقتنع بذلك خوفاً من إعادة التئام الجمهوريات السوفييتية السابقة, إما في إطار تجدد القومية الروسية, أو في إطار مظاهر الاتحاد السوفييتي السابق. فاستمرت واشنطن في مطاردة الوجود الروسي في الجمهوريات السابقة, بعد أن حاربت النفوذ الروسي فيها, بل إنها تتجه بوضوح إلى تفكيك الاتحاد الروسي نفسه ولهذا السبب اعترضت موسكو على الاتجاه إلى منح الاستقلال لإقليم كوسوفو. أما في العالم العربي, فإن تفتيت الدول في آسيا الوسطى وروسيا ومن قبله تيمور الشرقية سوف يرفع وتيرة التفتيت في العالم العربي. ومعلوم أن تفتيت العراق لأسباب تتعلق بإسرائيل سوف يؤدي إلى تعقيدات إقليمية خطيرة أبرزها قضية الأكراد والصراع بين حق تقرير مصير بعض الأقليات, وحق الدول التي تعيش فيها الأقليات في المحافظة على سلامتها الإقليمية. ولعل احتلال العراق قد ارتبط بأعلى درجة من تحقير العروبة ورموزها, في الوقت الذي تدافع فيه واشنطن عن الهوية الصهيونية وتصويرها على أنها قومية تاريخية, وبذلك توظف واشنطن الفكرة القومية توظيفاً سياسياً متناقضاً, فتشجع قوميات انفصالية وقوميات استعمارية توسعية عندما يكون ذلك خدمة لمصالحها, بينما تحطم الروابط القومية العربية والإسلامية لإضعاف المنطقة العربية والإسلامية لمصلحة إسرائيل. أما أثر ظاهرة التفتيت على النظام الدولي, فلا شك أنه كلما قل عدد أعضاء المجتمع الدولي كلما كان من السهل إدارة العلاقات فيما بينهم سواء من خلال الدولة المركز أو من خلال تفاعل العلاقات بين مختلف أحجام الدول وأوزانها. فالأمم المتحدة التي بدأت بأقل من خمسين عضواً تختلف عن تلك التي تضم في عضويتها ما يربو على المئتين. من ناحية أخرى فإن طائفة جديدة من الدول نتيجة هذا التفتيت تعرف بالدول الأكثر صغراً MINI STATES تضاف إلى الدول القزمية Micro STATES تزيد عدد مجموعات الدول العظمى والكبرى والمتوسطة ثم القزمية والميكرو. يؤدي هذا الوضع إلى شيوع الغموض والمزيد من الصراعات في عصر يتكتل فيه الغرب سياسياً واقتصادياً بينما يقاوم حركات الانفصال القومية أو العرقية والثقافية أو السياسية في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وغيرها. غير أن تفتيت الدول خارج الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي قد يمتد إلى مناطق أخرى ويتطلب وضع قواعد جديدة للتحالفات والصراعات الدولية وهي نقطة جديرة بالدراسة الجادة من الآن ما دام بروز الظاهرة قد أصبح أمراً لافتاً للباحثين والمراقبين. وأخيراً, فإن الإصرار على تمزيق الدول في العالم العربي بعد تمزيق الروابط والتحالفات بين الدول العربية نفسها يتطلب الوعي والحذر والعمل المضاد والإصرار على الوجود العربي, بل إعادة صياغة الفكر القومي العربي الذي ثبت أنه حارب فكرة الدولة التي نشأت في ظروف معينة, ودفع صوب توحيد هذه الدول إلا أن هذا الفكر القومي كان ضمانة مهمة وخطاً متقدماً للدفاع عن الدول العربية كحد أدنى والتي تتعرض الآن لكن الأخطار. ولكن المحقق أن إعادة صياغة الفكر القومي تعني استيعاب التجارب السابقة والعثور على السياسة القومية التي تحقق التماسك العربي وتدفع عن العالم العربي هذا العدو الجديد. |
|