|
ملحق ثقافي
- و للأمانة لابد من القول هنا : إن تشخيص أزمة الموسيقى العربية كان قد بدأ منذ بدايات القرن الماضي و تحديداً أثناء انعقاد المؤتمر الأول للموسيقى العربية عام 2391 في القاهرة، و تواترت الاهتمامات إلى يومنا هذا ، بحيث تم تراكم التوصيات و القرارات الهامة التي قدمت على كونها علاجاً ناجعاً لهذه الأزمات التي بدت بالرغم من ذلك مستعصية و غير قابلة للحل بسبب تعارض و اختلاف الرؤى بين الموسيقيين العرب و هو ما تؤكده على الدوام الصراعات الفنية الخفية و المعلنة ما بين تيارات الموروث و الأصالة و الحداثة و التجديد بما فرضته تحولات الحياة الحديثة و أثرها في بنية المجتمع العربي عموماً ، خاصة أن الموسيقي العربي واجه بدوره تحديات عديدة مع دخول تقانات و مفردات غربية قلبت الحياة الموسيقية العربية مما فرض لغة جديدة في الكتابة اللحنية و الصوتية و وسع مدارات و أفق اللغة الأصيلة بعد أن تماهت سنين طويلة مع مفردات طربية كان أغلبها يسعى أو يتبنى البعد الحسي و ليس النفسي الذي أسر الموسيقي العربي و كبل الصوت و حبسه في نطاق ضيق و محدود . - من هنا كان للمفردات الغربية الكلاسيكية دور هامٌ في إثراء هذه اللغة و منحها ألق حياة جديدة أثرت بدورها في الكثير من الممارسات الموسيقية التي غيبت العديد من الأنماط و القوالب الموسيقية الموروثة لتحل مكانها أنماط موسيقية تأرجحت ما بين البعد التعبيري و النفسي و البعد الاستهلاكي التجاري التي توسعت مداراته في يومنا هذا نتيجة لعوامل عديدة كنتيجة منطقية و طبيعية لعدم تنفيذ وتبني التوصيات و القرارات التي شرعتها المؤتمرات العتيدة للموسيقى العربية و مؤتمرات المجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية بما قدم بدوره من إسهامات غنية و مخلصة في سبيل تشخيص حقيقي لهذه الأزمات المتواترة و التي أثرت دون شك في تثوير و ارتقاء ا للغة الموسيقية العربية المعاصرة و وضعها في سياقها و بعدها الإنساني المنشود . - إن فقدان الروح والوعي الحقيقي بعمق و مدى الأزمات الموسيقية المتصاعدة هو في المحصلة كارثة حقيقية بدأت نتائجها تظهر على سطح و تفاصيل الحياة الاجتماعية العربية بشكل يعكس بالمحصلة عمق الأزمة التربوية و الأخلاقية في مناخات بدأت تسيطر و تمتد كالأخطبوط في ثنايا و مفردات هذه الحياة و الاتجاه نحو سمت المناخات التجارية التي تتمثل اليوم بسوق ممتد من البضاعات الموسيقية الفاسدة التي تتبناها الكثير من المكانات الإعلامية و خاصة الفضائيات و الإذاعات الغنائية ذات التوجه النفعي الذي يتبنى منطق التاجر من ربح و خسارة على حساب القيم و المشاعر الإنسانية التي من المفروض على صناع هذا الفن من أن يتبنوها و يحملوها أعمالهم التي باتت فارغة من أي مضمون فكري أو وجداني يثري الذائقة و يغني الطقوس السمع بصرية بما يعيد الروح و البعد الجمالي المفقود لدور هذا الفن في بناء الوطن و الإنسان . - إن البيئة الموسيقية العربية اليوم ، مليئة مع كل أسف بالأمراض و الأوبئة الفتاكة التي باتت تفتك بجسم الحياة الموسيقية العربية دون أن يكون هناك ثمة علاج فعال و ناجع يشخص أولاً و قبل كل شيء الحالة المرضية و مسبباتها ليصل إلى العلاج الأمثل بعد أن عاث الفساد و الانحدار في أوصالها ، و الدواء برأينا متوافر عبر العودة المخلصة إلى الجذور و إلى منابع الروح الأصيلة في الكتابة الموسيقية تلك الروح المرنة و المطواعة و التي استفادت في كثير من مراحلها بالمفردات الوافدة من موسيقات مختلفة فأصبحت على الدوام نابضة بالحياة و مفردات الإبداع و التفرد قابلة للتعديل و التطوير من داخلها طوعاً و ليس قسراً ، حيث تم تقديم مشاهد موسيقية مضيئة تحمل بين طياتها ألواناً أصيلة موشاة بتأثيرات موسيقية للآخر الذي تحاور معه الموسيقي العربي و استفاد من مفرداته منذ القدم كما يخبرنا بذلك الأصفهاني في كتابه الموسوعي ( الأغاني ) و غيره من مؤرخين أثبتوا هذا الحوار الحضاري مابين الموسيقي العربي و الموسيقي الإغريقي و الفارسي قديماً و التركي أو الغربي الأوروبي في العصر الحديث بما وضع هذا الفن في مناخات تعبيرية و ذروات جمالية أخاذة كتب ورسم مشاهدها العظيمة أسماء مبدعين انطلقوا من موروثهم الموسيقي و جمالياته المتفردة ليكتبوا مشروعاً موسيقياً حداثياً في أبعاده الاجتماعية و الروحية ، هذا المشروع الذي اصطدم مرات عديدة بعقبات أعاقت ارتقاء لغته الجمالية خاصة في عدم توافر مكانات إعلامية تقدم مفرداته و تغني اسهاماته بقراءات نقدية أكاديمية حيث تم سيطرة المد الاستهلاكي على كافة هذه المكانات مما جعل هذا المشروع ينكفئ و يتراجع إلى الظل في استعادة للمقولة الشهيرة " العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة " ، و مع ذلك و من هذا الواقع المظلم كان على هذا المشروع أن يثبت قوته و حضوره في العديد من الفعاليات و المنتديات التي باتت تقام في الكثير من البلدان العربية و بلدان العالم و هو ما وسع دائرة الاهتمام و أفق المتابعة و التلقي بما شكل مادة خصبة للمتلقي العربي الذي بات مع النتاجات الاستهلاكية محروماً من موسيقاه و مفردات هويتها الإبداعية في سبيل الاندماج مع اللغة الواحدة القائمة التي تتبناها و تروج لها منظومة العولمة اليوم بما يشكل خطورة لا يمكن لأحد أن ينكرها على هذه المفردات الأصيلة التي هي نتاج عبقري لمفكري و مبدعي هذا الفن على مر آلاف السنين بما أصل هذه الروح الإبداعية و قدم من خلالها مدارس موسيقية كان لها تأثيرات و بصمات حقيقية في كثير من موسيقات العالم . - ختاماً لا بد من القول : إن الموسيقى العربية المعاصرة تواجه اليوم أزمات حقيقية على القيمين أن يتداركوا الأمر هذه المرة بشكل عملي بعد أن أشبع الموضوع بحثاً و تنظيراً خاصة في مجال الحفاظ على الهوية الموسيقية العربية و عناصر اللغة الموسيقية و خصوصياتها حيث باتت التكنولوجيا الحديثة و كما نعلم تؤثر بشكل سلبي في ذوبان هذه العناصر من مقامات و إيقاعات و آلات و طقوس الإنتاج و التلقي و غيرها من مفردات تشكل عبئاً ماثلاً أمام الموسيقي العربي الذي بات يفتقد روح التمرد و الثورة على واقع موسيقي معاصر يسير في مسار التبعية و الغربنة بما فرغ هذا الفن من مضمونه الإنساني الذي دافع عنه الرواد و أعلام هذا الفن منذ آلاف السنين و هو ما يفتقده المشهد الموسيقي المعاصر حيث تحمل العناوين التجارية الفاضحة مناخات الروح الحداثية المعولمة و تقدمها كنموذج أمثل لحركة و تطور هذا الفن و اندماجه في مفردات هذه الروح التي تشرعن الاقتباس و الذوبان و الإبهار الفارغ في سبيل إلغاء الروح الأصلية التي لم تعد تجد من يحتضنها و يدافع عنها لأنها و ببساطة تتعارض مع روح الاستهلاك و انعدام القيم التعبيرية و الجمالية ، هذه القيم التي تؤنس الإنسان في زمن بات يعتم على كل ما هو أصيل و نبيل في موسيقانا بمباركة هذه الروح الحداثية المعولمة التي لن تفضي إلا إلى الخواء الإبداعي و العماء الروحي الذي ما بعده عماء . |
|