تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تعددت الأسباب والغلاء واحد..المعادلة الصعبة ... جمود الأسواق وارتفاع الأسعار.ارتفع الدولار بنسبة 4-6% والسلع بنسبة 10-15% والفارق في جيوب التجار.

مراسلون وتحقيقات
الأربعاء 21/12/2005م
معن عاقل

اعتاد المواطنون فيما مضى أن يستيقظوا صباح اليوم التالي لزيادة الرواتب, ويجدوا أن أسعار معظم السلع والخدمات ارتفعت, وحتى عندما كان يعلن مصدر حكومي رفيع أن الارتفاع سيطال فقط مادة أو مادتين استهلاكيتين, كانوا يعرفون أن هذا الارتفاع سيطال ما تبقى عاجلاً أو آجلاً, لا سيما وأن احدى هاتين المادتين هي حتماً الوقود. بل إن أحد وزراء المالية, ظهر على شاشة التلفاز إثر احدى الزيادات, ليعلن على الملأ أنه لن تكون هناك زيادة سعر على أية مادة, لكن المواطنين فوجئوا منتصف الليل ذاته أن أسعار المحروقات ارتفعت.

هذه المرة, لم تحدث أية زيادة على الرواتب والأجور, لكن معظم أسعار السلع والمواد ارتفعت, كأننا عكسنا الاتجاه تماماً,وانتقلنا من مستوى بسيط وسهل للتفسير الى مستوى آخر مختلف كلياً, أكثر تعقيداً وأوسع حدوداً, ويكاد يقتصر على المتغيرات وتغيب عنه الثوابت.‏

خلال العديد من الجولات في الأسواق, حاولنا الحصول على فاتورة من بائعي المفرق أو تجار الجملة, بهدف معرفة تقلبات الأسعار خلال الشهرين الأخيرين, غير أننا فوجئنا بحاجز الخوف, لا أحد يتعامل بالفاتورة النظامية, ولا أحد يريد الحديث عنها, كأن هذاالخوف أنتج مستويين من العلاقات الأول هو مستوى علاقة التجار فيما بينهم, وتقوم على الاتفاقات المباشرة والمعرفة الشخصية لبعضهم البعض, والثاني مستوى علاقتهم مع المؤسسات الحكومية وأهمها المالية والتموين, وهو ما أنتج في النهاية ازدواجاً محاسبياً أدى الى ازدواج ضريبي.‏

لكن ما سبب هذا الخوف? أهو خوف من القانون أم من القائمين عليه?‏

في الحالتين نحن أمام معضلة, فالخوف من القانون يعني أن هذا الأخير لا يتوافق مع مصالح أولئك الذين سيطبق عليه ويعني أن هناك تشكيكاً ضمنياً في عدالته كما يعني أن هناك مواجهة مستمرة بينه وبين من يفترض به أن ينظم حياتهم. أما الخوف من القائمين عليه, أي المكلفين بتنفيذ القانون, فإنه يعني ترسيخ علاقة شبيهة بلعبة الأطفال: يغمض أحدهم عينيه بينما يختبئ الآخرون, وعندما يفتحهما يبدأ بالبحث عنهم, وهكذا يمكنه أن يرى على هواه هذا أو ذاك, أويتغاضى عن أحدهم, في حين يتابع ويمسك آخر.. الفرق الوحيد هنا, أن الأطفال يظلون في نهاية اللعبة أصدقاء, المنتصرون منهم والمهزومون, أما في حالتنا, فيتحول الخوف الى ناظم للعلاقة برمتها.‏

باختصار, لم نجد من يبرز لنا فاتورة نظامية واحدة, والأهم أنه أمام أحد متاجر الجملة, صادفنا شاباً يشتري مواد تموينية, كان من بين المشتريات صفيحة سمنة, فأخبره التاجر أن سعرها ارتفع من 400ل.س الى 500ل.س, ودار حوار بينهما حول غلاء معظم الأسعار, ولما تدخلنا لمعرفة نسب الغلاء, تهرب التاجر قائلاً إنه لايعرف التعديلات التي طرأت على الأسعار منذ شهرين,مدعياً أنه جديد في هذه المهنة, واختصر الشاب الموقف بقوله: إنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم!!‏

فايز شاهين صاحب محل أجبان وألبان :‏

لم ترتفع أية مادة لها علاقة بالحليب ومنتجاته وهناك من يقول: إن السمن النباتي قد يرتفع سعره لكن لم يحدث ذلك حتى الآن, وحتى البضاعة المستوردة قيل إنها سترتفع, لكن ذلك لم يحصل. ومع أن الفلاحين يقولون إن أسعار العلف ارتفعت, لكن الحليب حافظ على سعره. عموماً,المواد من إنتاج سوري لم يرتفع سعرها ما عدا اللحم والزيتون والزيت.‏

عاكف خليل موزع أجبان وألبان:‏

صادفناه أمام حانوت فايز شاهين وقال:إنه يأتي بالجبن واللبنة والزبدة من المعامل وأن أسعارها ارتفعت في الآونة الأخيرة فالجبنة البقرية كانت ب 85ل.س للكيلو وصارت ب105ل.س , وكانت الزبدة ب90ل.س وصارت ب125ل.س وكان الحليب ب14 ل.س وصار ب17ل.س ويعتقد أن سبب الارتفاع هو تخفيض مخصصات العلف للمربين وغلاء أسعاره.‏

محمد الحمصي- صاحب عصرونية:‏

غالبية سلعنا مستوردة من السعودية وبدأ ارتفاع أسعارها منذ عشرين يوماً وذلك بسبب ارتفاع الدولار, وبلغت نسبة الارتفاع 12%, مع أن الأسعار بقيت ثابتة عالمياً.‏

المشكلة هي في الناس الذين يملكون مبالغ مالية صغيرة بحدود 200- 300 ألف ليرة, هؤلاء حولوها الى دولار ما أدى الى ارتفاع سعره. أنا شخصياً لا أحول الفوائض المالية الى دولار, إنما اشتري بها بضاعة. عموماً هناك جمود في السوق, ورغم ارتفاع الأسعار حافظنا على أسعارنا القديمة, لأن بضاعتنا مشتراة على السعر القديم, ومع ذلك الحركة كما ترى شبه متوقفة.‏

ابراهيم كوكي صاحب مكتبة:‏

ارتفع ماعون الورق من مصدره من 130 ل.س الى 155ل.س, وكان سعر الجملة للدفتر ب19 ل.س فصار 22 ل.س, ومع ذلك بقي سعر المبيع ثابتاً لكن نسبة الربح انخفضت. أغلب بضاعتنا تأتي من الخارج ومعظمها ارتفع بنسبة 15%.‏

لا نستطيع رفع الأسعار لأننا على معرفة بالزبائن, ونحن نتحمل هذا الغلاء على حساب هامش ربحنا.‏

رضى المؤذن صاحب حانوت:‏

ارتفعت معظم سلع البقالة بنسبة 5%, كان طن السكر ب23 ألف ليرة وارتفع الى 25 ألف ليرة بنسبة 8%, والأصناف التي ارتفعت كثيراً لم نعد نبيعها. وسبب ارتفاع الأسعار هو ارتفاع سعر الدولار والاستناد عليه. وعموماً المنتجات المحلية لم ترتفع أسعارها أما السلع المستوردة فارتفعت بنسبة 8-10% ,لاأحد يرضى أن يتعامل بالفاتورة, وبالتالي لا نستطيع البيع إلا بالسعر المتعارف عليه لأن الزبون يشتكي للتموين.‏

وسيم دويري -لحام:‏

كنا نشتري كيلو لحم الغنم ب200-225ل.س ونبيع الكيلو مجروم ب325 ل.س بنسبة 10% دهن, ارتفع الآن الى 275-280ل.س وصرنا نبيعه ب400 ل.س والسبب لا علاقة له بالدولار, إنما بسبب التصدير وموسم الحج, ومع غلاء الأسعار خف البيع وبدأ الناس يتجهون الى مواد غذائية أخرى, لذلك أغلق بعض اللحامين متاجرهم وغيروا مهنتهم.‏

حسام الدويدي لحام أيضاً طالب وزير الاقتصاد بوقف التصدير لإعادة توازن الأسعار.‏

خالد جاويش بائع أدوات كهربائية:‏

ارتفعت أسعار معظم الأجهزة الكهربائية منذ أسبوعين بمعدل 10% ولا سيما الموبايلات التي وصلت الى 13% والسبب هو ارتفاع سعر الدولار, ومعظم الشركات أوقفت بيع منتجاتها وتنتظر حتى بداية العام كي تطرحها بأسعار جديدة, والمشكلة أن أسعار هذه السلع لا تنخفض إذا انخفض سعر الدولار.‏

محمد عيد بائع جملة:‏

ارتفعت أسعار الورق بنسبة 25% فما فوق والمشكلة أنه مفقود, ومنذ شهر ونصف اشتريت كيس سكر وزنه 50 كيلو ب1160 ليرة. اليوم تجاوز سعره ال1250ل.س نحن لا نعطي فاتورة لباعة المفرق بسبب المالية, وأيضاً لا نأخذ فاتورة أصلاً من التاجر الأصلي, فالتاجر مستعد لبيع صفيحة السمن بربح عشر ليرات, وإذا تعامل بفاتورة نظامية, فعليه أن يرفع السعر كثيراً.‏

أيمن شعبان بائع جملة:‏

معظم المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 7-8%, والسبب هو ارتفاع الدولار وهناك بعض المواد غير المرتبطة بالدولار تنخفض وترتفع حسب التصدير ومنعه.‏

بالنسبة للفاتورة,إذا كانت تسعيرة كيلو الحمص هي 25ل.س للكيلو الواحد ويصل عند الفلاح الى 48ل.س وأحياناً 60 ل.س فكيف سأعطي الزبون فاتورة.‏

رغم تراجع سعر صرف الدولار .. مازال اللهيب كاوياً‏

إذاً هناك سببان لارتفاع أسعار معظم السلع- كما يقول التجار- الأول هو ارتفاع سعر الدولار بسبب الإقبال على شرائه نظراً للظروف السياسية,والثاني هو التصدير الكبير للعديد من السلع. ويمكن أن نضيف أيضاً ما ذكره البعض من إقبال التجار أنفسهم على تخزين كميات كبيرة من المواد تهرباً من الاحتفاظ بسيولة نقدية.‏

حسناً, تضافرت مجموعة من العوامل المتناقضة والمتشابكة في عمليات التسعير ورغم الاعتراف بجمود حركة الأسواق, أي عدم وجود طلب كبير على معظم المواد في السوق المحلية, إلا أن ذلك لم يسهم كثيراً في الحد من ارتفاع الأسعار, ويبدو أن الطلب الحقيقي كان بين التجار أنفسهم, لا سيما أولئك الذين يرفضون لهذا السبب أو ذاك التعامل مع الدولار بوصفه عملة آمنة, ومن جهة أخرى لعب التصدير دوراً في ارتفاع أسعار بعض المنتجات المحلية, كالزيوت والبقوليات والخضروات, إضافة الى أن موجة الغلاء في حالة المد لابد أن تنشر حركتها وآثارها في بقية المواد, كنوع من ضرورة التوازن على مستوى الحالة العامة للأسواق, وحتى على مستوى الاقتصاد الكلي.‏

لكن السؤال الأهم هنا: هل ارتفعت الأسعار بما يتناسب مع ارتفاع أسعار الدولار, إذا اعتبرنا هذا الأخير هو المحرك الرئيس للمشكلة?‏

لنلاحظ أن أسعار الدولار حكومياً لم ترتفع أكثر من 6% في أحسن الأحوال وأن الدولة بقيت تمول المستوردات بالسعر الرسمي, وإذا اعتبرنا أن جزءاً من المستوردات هو مواد أولية لازمة للتصنيع, فإننا سنجد حتماً أن الارتفاع الحاصل يفوق تقريباً ضعف ما طرأ على الدولار من تغير , وحتى إذا حسبنا الارتفاع على سعر الدولار في السوق السوداء, وأخذنا بعين الاعتبار ملاحظة المستوردات من المواد الأولية وتغطية الدولة لجزء كبير منها, فسيظل ارتفاع السعر غير مبرر واقعياً.‏

إذاً,ربما يتعلق الأمر بالتصدير?!‏

بالفعل لعب التصدير وعدم توزان سياساته, حتى قبل الشهرين الأخيرين, دوراً كبيراً في ارتفاع العديد من المنتجات المحلية,لا سيما الغذائية منها, فمثلاً ارتفعت أسعار الزيوت فوق معدلها بكثير ووصلت الى أكثر من 50%, أما اللحوم فإن تصديرها لا سيما في مواسم الحج والأعياد, دون أخذ احتياجات السوق المحلية بعين الاعتبارلعب دوراً رئيساً في غلائها, ولعل ما لاحظه المواطن هشام هواري من ارتباط بعض أسعار الخضروات بقرار منع التصدير أو السماح به جدير بالاهتمام, فكيلو الزهرة ارتفع في حالة السماح بالتصدير الى 14 ل.س بينما انخفض في حالة ايقافه الى 4 ل.س , كما أن سعر الحمص ارتفع نتيجة التصدير أكثر من 100% وقفز من 25 ل.س للكيلو غرام الواحد الى 50-60 ل.س.‏

وأضاف السيد هواري سبباً آخر للغلاء هو الاحتكار . وضرب مثلاً مادة السكر التي كانت تباع ب 25ل.س للكيلو وصارت ب30 ل.س بالمفرق, أي ارتفعت بمعدل 20%, مضيفاً أن طن السكر في الأسواق العالمية انخفض سعره منذ عام ونصف من 350 دولاراً الى 310 دولارات, بينما ارتفع سعر الكيس عندنا زنة 50 كغ من 750 ل.س الى 1260 ل.س . مختتماً إنها لعبة تجار واحتكار بضعة أشخاص, فابحثوا عنهم علكم تجدوهم.‏

وربما أسهمت المخاوف على المستوى الشعبي من الأحداث السياسية التي تعصف بالمنطقة من كل حدب وصوب في خلق مثل هذه الأزمة, لا سيما حالة عدم الشعور بالأمان الاقتصادي, وعزز هذه المخاوف مجموعة من التجار والمستفيدين الذين ضربوا ضربتهم كما يقال, بل إن البعض يزعم أن تجاراً حصلوا على تغطية بالدولارات لإجازات استيراد وهمية وربحوا الملايين بين ليلة وضحاها, لكن السياسة الحكومية أثناء الأزمة لم تكن أحسن حالاً, واتخذت اجراءات وأطلقت تصريحات عززت المخاوف أكثر مما سكنتها. فمثلاً أعلنت الحكومة عن إمكانية بيع كل مواطن خمسة آلاف دولار بالسعر الرسمي على أن يحتفظ به لمدة سنة في المصرف, وبالطبع فإن مثل هذا الإجراء يأتي بمفعول عكسي بالنسبة لرؤوس الأموال الصغيرة, لا سيما في حالة طوارىء اقتصادية, لأن هذا الرأسمال يميل في هذه الحالة الى الكنز والادخار الشخصي ويتجنب المصارف, ويدرك أيضاً أنه سيدفع مدخراته لقاء وعد بالقبض المؤجل وهو ما يثير حفيظته أكثر. وترافق ذلك مع توقيف عدد من الصرافين وإطلاق تصريحات حكومية حول تعويم الليرة, بالإضافة الى شائعات كثيرة حول حصار اقتصادي محتمل وحول إمكانية انهيار وشيك لليرة.‏

على أية حال, العاصفة مرت جزئياً بسلام, وعاد سعر صرف الدولار الى ما كان عليه مع ارتفاع طفيف, لكن أسعار السلع ظلت مرتفعة, وبالنسب ذاتها أثناء الأزمة, ما يعني أن الأزمة ,أزمة الدولار والليرة, كانت مجرد ذريعة وحجة, وأن عوامل الاحتكار وغياب سياسة تصدير تراعي الحاجات المحلية, كانت أساس الأزمة, وفاقمها الارتباك الحكومي الذي رافقها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية