تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ســـــــورية الجميلــــــــة..رسائل الحب الستيني (78)

ثقافة
الثلاثاء 19-5-2009م
أســــــــــعد عبـــــــــود

دفعني إلى هناك الإدمان.. حزن يملأ صباحي ولا رغبة لي حتى في الكلام، لكنه هوى الأمكنة.. هي التخوم ذاتها، المشهد الذي يثير فيّ فرح الكآبة، وقد غاب عن الموقع من كنت آمل وجودهم..

غيابهم جعلني أبحث عنهم.. أنا والمكان.. وامتداد النظر.. وهواء لا بارد ولا ساخن، لا عنيف ولا خفيف، كأنه ماء غسيل الموتى..‏

حزني وحده الذي يستطيع أن يصنع بحراً على قمة قاسيون.. وصوتكِ وحده قارب ومجذاف علّي أجدني حيث أنا..‏

هل صحيح أن جميلة وسعادة سخنتا الماء لغسيل جسد معلا يوم وفاته بدست غير نظيف..؟! عليه آثار طبخة قمح (متبلة)..؟!‏

ضحك أبو ميهوب وقال:‏

وماذا يهمه معلا؟! بالعكس هكذا أرطب له..!‏

قال محسن:‏

اسمع يا أبا ميهوب.. لا تسخر من وفاة والدي.. للميت احترامه أيضاً..‏

قال أبو ميهوب:‏

لو غسلته بدست عرق لكان أنظف..؟!‏

لم يدرِ محسن بما يجيب فبكى.. واستهجن أبو ميهوب أن يسبب في حياته بكاء لأحد.. وهو لا يعرف الاعتذار ولا يعرف البكاء..‏

العسلي بحكاياته أراد أن يصل إلى أصقاع الدنيا وزهرة لم تستجب له كما يجب.. توقف عند حدود الرواية..‏

قال يوماً لأبي ميهوب:‏

- العالم.. كبير.. كبير..‏

< لا يتجاوز ما تصله رجلاك أو تراه عيناك..‏

- ألا تسمع الراديو..‏

< حكي.. كله حكي..‏

- عندما أرى زهرة بين المجتمعين تسمعني وأنا أروي قصص الصيد.. أرى العالم..‏

< تماماً مثلي بعد أول بطحة..‏

- وعندما تصحو..‏

< مثلك عندما تقتصر بكلامك على الصدق.‏

- أنت رجل حزين وتهرب من حزنك إلى النكتة والبطحة.‏

< وأنت رجل فاشل تهرب من فشلك إلى أن تروي وتعشق في الهواء..‏

بعد أن انجلت المعركة.. تحت شجرة توت.. والوقت أصيل.. وهواء يهب لا ساخناً ولا بارداً كأنه ماء غسيل الموتى..‏

بكى العسلي..‏

قال أبو ميهوب بعيداً عن أي ندم:‏

هنيئاً له..‏

- على ماذا تحسدني؟‏

< على البكاء: دواء للحزن..‏

- أنت الذي تعرف كيف تداوي ببطحتك كل الأحزان..!‏

< تكلفني غالياً يا عسلي.. والبكاء بلا مقابل.‏

- إنهم يكرمون عليك..‏

< ادفع الثمن..‏

- أنت يا أبا ميهوب لا تعرف الحزن.‏

< احذر ياعسلي واسأل الطرقات والزوايا والمنحنيات والغابات والنهر والسهل والجبل والعصفور والحجل وأم ميهوب وميهوب والجيران والأهل.. اسألهم عن حزني.. ليس في الدنيا كلها بحر عرق يكفي لبحر أحزاني..‏

قال القرحيلي:‏

أنا لا أعرف لماذا يحزنون.. لكل علة دواء .. وللحزن دواء.. إنهم ينامون كثيراً.. عند كل فجر أراقب الطرقات فلا أجد فيها إنساناً..!! يأتي النهار ليزيل الليل فيجدهم نياماً.‏

ليس لدي ما يثبت تلك الرؤية.. لكم امتنع النهار عن ردع الحزن الذي أضاء ليلي فلم أنم..‏

لعله الخوف..‏

في صغري كنت أخاف جداً من الأفاعي.. بصراحة مازلت بهذا الشكل أو ذاك أخافها.. يقولون: الأفعى لا تخيف بعد أن تظهر..‏

لا أعرف لخوفي سبباً.. لعلّه القرف..أخاف السحالي والجرذان والبرغش في الليل.. لعلّه الحزن أخاف غروب الشمس.. أخاف هواء لا بارداً ولا ساخناً يهب عليّ كأنه مياه غسيل الموتى..‏

لصوتكِ فعل حقيقي غير طاغ في عالم حزني..‏

لوجودكِ ما هو أعمق وأكثر فاعلية..‏

حبكِ عالمي.. لكن.. مع أحزاني..‏

قال علاء:‏

أنا حزين يا علا.. لن آتي..‏

قالت:‏

إن لم تأت إلي فإلى من تذهب بأحزانك..‏

هاجر علاء فحاصره الحزن حيث مضى، وعاد يبحث عنها في كل مكان.‏

ما زال المشهد ذاته.. والهواء ذاته.. والكآبة ذاتها..‏

تفقدت نفسي باحثاً عن قلم وأوراق.. أريد أن أسطر حيث ذهبت ذاكرتي.. أخشى أن أنسى.. إنها الستون.‏

هبطتُ الجبل وأنا أعرف أنني إليه عائد..‏

إنه الادمان في هوى الأمكنة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية