غير أننا سيتضح لنا لاحقاً أن التكنولوجيا تمثل جزءاً واحداً فقط في توضيح معنى العولمة الحالية.
تعريف العولمة
تشير العولمة إلى (العمليات الاجتماعية المتعددة الأبعاد التي تخلق وتوسّع وتعدّد الترابط الاجتماعي العالمي المتبادل وتعزز الوعي لدى الناس بالارتباط العميق بين المحلي والبعيد). هذا التعريف يؤكد على الطبيعة الديناميكية للظاهرة، فتعزيز الترابط العالمي وتزايد الوعي بذلك الاتصال هو عملية تدريجية ذات أصول تاريخية بعيدة. فمثلاً، المهندسون الذين طوروا كومبيوتر اللابتوب وطائرات السوبرسونك اعتمدوا على المبتكرين الأوائل الذين اخترعوا المحرك البخاري والتلغراف والتلفون والطابعة والوسائل الإلكترونية. وهذه المنتجات بدورها اعتمدت أيضاً في وجودها على ابتكارات تكنولوجية أكثر قدماً مثل التلسكوب والبوصلة والدواليب المائية وطواحين الهواء والبارود وورق الطباعة والسفن. ولكي ننظر في كل السجل التاريخي سنصل تاريخياً إلى ما هو أبعد من ذلك في مجالات التكنولوجيا والإنجازات الاجتماعية مثل إنتاج الورق ونشوء الكتابة واختراع العجلة وتهجين الحيوانات البرية وممارسة الزراعة وظهور اللغة وأخيراً هجرة أسلافنا الأفريقيين في بدايات فجر الإنسانية.
وهكذا فان الإجابة على السؤال حول ما إذا كانت العولمة تشكل ظاهرة جديدة أم لا، تعتمد على البعد الزمني الذي نرغب الامتداد إليه في تتبّع سلسلة التكنولوجيا والترتيبات الاجتماعية الحديثة. بعض الباحثين يقصر الإطار التاريخي للعولمة بالعقود الأربعة الأخيرة لما بعد التصنيع لكي يتمكنوا من الإمساك بالمواصفات والمقاييس الحالية . بينما يرغب فريق آخر بتوسيع هذا الإطار الزمني ليشمل التطورات في القرن التاسع عشر. ولايزال البعض يجادل بأن العولمة تمثل حقاً الاستمرار والتمدد في العمليات المعقدة بظهور الحداثة والنظام الرأسمالي العالمي قبل خمسة قرون. أما القلة المتبقي من الباحثين فيرفضون تحديد إطار زمني للعولمة يقاس بالعقود أو القرون، وهم يرون أن هذه العمليات كانت تحدث منذ ألف عام.
لاشك أن كل من وجهات النظر تحتوي على تصورات هامة، فكما سنلاحظ أن مناصري الاتجاه الأول وفّروا دليلاً قوياً على نظرتهم بأن التقدم الواسع والسريع في التواصل العالمي منذ السبعينات من القرن الماضي يمثل مفصلاً هاماً في تاريخ العولمة. أما أنصار الاتجاه الثاني يؤكدون على الارتباط المتماسك بين الأشكال الحالية للعولمة وبين انفجار التكنولوجيا أو ما يسمى بالثورة الصناعية. أما ممثلو الاتجاه الثالث، فيشيرون بشكل سليم إلى أهمية الانضغاط والتقارب المكاني الذي حدث في القرن السادس عشر، وأخيراً فإن المناصرين للاتجاه الرابع يطرحون نقاشاً قوياً حينما يصرون على أن أي تقييم شامل لموضوع العولمة يبقى قاصراً إن لم يدمج أشكال التطور القديمة والديناميكية التاريخية ضمن تاريخنا الحالي.
إن العرض التاريخي القصير الذي سنقوم به الآن رغم طبيعته العامة يعطينا إدراكاً هاماً بأن العولمة قديمة قدم الإنسانية ذاتها، وهذا الإيجاز التاريخي يحدد خمس مراحل تاريخية متميزة تنفصل كل واحدة عن الأخرى طبقاً لسرعة التفاعل الاجتماعي وسعة الحيز الجغرافي لكل منها. هذا العرض التاريخي لا يعني بالضرورة وجود حقائق خطية للتاريخ ولا يدعم النظرة الأوروبية المركزية الشائعة لتاريخ العالم. فتاريخ العولمة شمل كل الدول والثقافات الرئيسية في هذا الكوكب حاملاً معه كل ما هو غير متوقع من عنف وتراجع وتوقف مفاجئ. ولهذا لابد من رفض الأحكام المسبقة على العولمة مثل فكرة الحتمية أو فكرة اللاتراجع Irreversibility))، ومن المهم أيضاً ملاحظة حدوث القفزات التكنولوجية والاجتماعية المثيرة في التاريخ التي دفعت تلك العمليات من حيث الكثافة والمدى إلى مستويات جديدة.
1- مرحلة ما قبل التاريخ
يبدأ تاريخنا الموجز للعولمة من 12000 سنة مضت عندما تمكنت جماعات صغيرة من الصيادين وجامعي البذور من الوصول إلى الطرف الجنوبي لأمريكا الجنوبية. وهذا الحدث شكّل نهاية لسلسلة طويلة من عمليات الاستيطان للقارات الخمس من قبل أسلافنا الأفارقة القدماء والتي بدأت منذ اكثر من مليون سنة. وعلى الرغم من وجود بعض الجزر الكبيرة في المحيط الهادي والمحيط الأطلسي التي لم تُسكن حتى أوقات متأخرة، إلا أن الانتشار العالمي الحقيقي للجنس البشري تحقق في نهاية المطاف. إن المحاولة الناجحة لقبائل أمريكا الجنوبية اعتمدت على الجهود المثابرة للمهاجرين من أسلافهم السيبيريين الذين عبروا بحر البيرنك ستريت (Bering Strait) إلى أمريكا الشمالية قبل آلاف السنين.
وفي هذه الحقبة المبكرة من تاريخ العولمة كان الاتصال بين الآلاف من الصيادين وجامعي البذور محدد جغرافياً، وعادة يتم في وقت واحد. وهذا الشكل من الاتصال الاجتماعي تغيّر جذرياً منذ عشرة آلاف عام عندما اتخذ الإنسان الخطوة الحاسمة في إنتاج طعامه. ونتيجة لعدة عوامل، بما في ذلك التطور الطبيعي للزراعة ووجود الحيوانات الملائمة للتهجين والاختلافات بين القارات من حيث المساحة وحجم السكان، أدّت إلى وجود مناطق معينة ملائمة للاستقرار والعمل الزراعي وكانت تتركز عند أو بالقرب من مقاطعات أوراسين الواسعة. وهذه المناطق تقع في الأقاليم الخصبة في شمال وسط الصين وفي شمال أفريقيا وشمال غرب الهند وفي غانا الجديدة. وبمرور الزمن أدّت وفرة الطعام المنتج من قبل الفلاحين ومربي الماشية إلى زيادة السكان وإلى إنشاء قرى دائمة وبناء مدن محصنة، فكانت كل من جماعات البدو والذين تخلفوا عن الالتحاق بقبائل معينة وأخيراً الدول القوية كلها تعتمد على إنتاج مواد التغذية الزراعية.
لقد جرى استبدال الطبيعة المرنة للصيادين والرعاة الأوائل بتركيب اجتماعي بطرياركي طبقي يتزعمه الرؤساء والكهنة الذين اُعفوا من واجب العمل الشاق. وكذلك في أول مرة في تاريخ الإنسان كانت هذه المجتمعات الزراعية قادرة على تقديم الدعم لاثنين من الطبقات الاجتماعية التي لم يشترك أعضاؤها في إنتاج الطعام. إحداهما مجموعة الحرفيين المتخصصين في العمل لأجل اكتشاف واختراع تكنولوجيا جديدة، مثل الأدوات الحديدية الفعالة والمجوهرات الجميلة وقنوات الري المعقدة والفخاريات الرائعة وهياكل الأبنية والنصب التذكارية. أما المجموعة الثانية فكانت تتألف من البيروقراطيين ذوي المهن والجنود الذين سيقومون فيما بعد بدور حاسم في احتكار العنف لمصلحة الحكام، وكذلك احتساب الكميات الفائضة من الطعام الضروري لنمو وبقاء الدولة المركزية، وضم أقاليم جديدة وتأسيس طرق دائمة للتجارة واستكشاف مناطق بعيدة. كانت العولمة في عهود ما قبل التاريخ محدودة جداً، فلم تتوفر آنذاك التكنولوجيا المتقدمة القادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والحواجز الاجتماعية القائمة، ولم يكن بالإمكان تحقيق تفاعل محسوس ضمن إطار جغرافي واسع، كانت فقط أشكال الإدارة المركزية من زراعة ودين وبيروقراطية هي الأساس في تكثيف التبادل الاجتماعي والذي سوف يتطلب تزايد أعداد المجتمعات في عدة مناطق من العالم.
2- مرحلة ما قبل العصر الحديث
وتبدأ هذه المرحلة من سنة 3500 قبل الميلاد إلى 1500 ميلادي، حيث أن اختراع الكتابة في بلاد وادي الرافدين ومصر ووسط الصين بين 3500 إلى 2000 قبل الميلاد كان يقابله تماماً اختراع العجلات في جنوب غرب آسيا عام 3000 قبل الميلاد. هذه الاختراعات الكبيرة قادت إلى القفزات التكنولوجية والاجتماعية الهائلة التي نقلت العولمة إلى مستوى اكثر تقدماً. ساعدت العجلة في التسريع باختراعات حاسمة لعمليات البناء التحتي مثل العربات التي تجرها الخيول والطرق الدائمة التي سمحت بالنقل السريع والفعال للناس والبضائع. وبالإضافة إلى انتشار الأفكار والبضائع، سهلّت الكتابة كثيراً في عملية التنسيق للفعاليات الاجتماعية المعقدة، ما أدى بالتالي إلى خلق المدن الكبيرة. وهكذا فإن مرحلة ما قبل العصر الحديث هي عصر الإمبراطوريات، حيث أن نجاح بعض الدول في تأسيس سيطرة دائمة على الدول الأخرى نتج عنه تجمعات إقليمية هائلة شكّلت الأساس في الممالك المصرية والإمبراطورية الفارسية وإمبراطورية مقدونيا والإمبراطورية الأمريكية للهنود الحمر والأنكا وإمبراطورية الرومان والإمبراطورية الهندية والخلافة الإسلامية والإمبراطورية الرومانية الدينية والإمبراطورية الأفريقية لغانا ومالي والسنغال والإمبراطورية العثمانية. وجميع هذه الإمبراطوريات شجعت التوسع المتعدد الاستعمال في الاتصال مع الأماكن البعيدة وتبادل الثقافات والتكنولوجيا والسلع وكذلك انتشار الأمراض. وكان من بين اكثر التكنولوجيات تقدماً في تلك المرحلة هي الإمبراطورية الصينية التي كشفت عن ديناميكية مبكرة للعولمة. فبعد قرون من الحرب بين عدة دول مستقلة تمكنت قوات الإمبراطور (كن) في عام 221 قبل الميلاد من توحيد الجزء الأكبر من شمال شرق الصين. وفي فترة الألف وسبعمائة سنة التي تلتها تمكن الملوك من السلالة نفسها، وبمساعدة طبقة واسعة من البيروقراط، من توسيع نفوذهم إلى الأقاليم البعيدة في جنوب شرق آسيا والهند والبحر المتوسط وأفريقيا الشرقية. وقد ساعدت الإنجازات الفلسفية آنذاك على الوصول إلى اكتشافات جديدة في حقول أخرى من المعرفة مثل الفلك والرياضيات والكيمياء، وكانت السلسلة طويلة من الإنجازات التكنولوجية التي تحققت في الصين خلال مرحلة ما قبل العصر الحديث، منها المحراث المتطور وهندسة الهايدروليك والبارود ووضع الغاز الطبيعي في الأنابيب والبوصلة والساعات الميكانيكية والورق والطباعة والمنسوجات الحريرية وتقنية المعادن المعقدة. إن بناء أنظمة الري التي تتألف من مئات القنوات الصغيرة ساعدت في تعزيز إنتاجية الزراعة في الأقاليم رافقها في الوقت نفسه توفير أفضل وسائل النقل النهري في العالم. ومما ساعد في تطوير وتوسيع التجارة والأسواق، هو قيام الصين بسن القوانين المنظمة الخاصة بالنقود من حيث تثبيت أوزانها وقياساتها وقيمتها. القياسات الدقيقة لحجم العربات المستعملة لأغراض النقل وما يقابلها من حجم الطرق، ساعد في تمكين الصينيين من إجراء حسابات دقيقة للكميات المرغوبة من السلع المصدرة والمستوردة.
وكان من أهم الطرق المستعملة في التجارة هو طريق الحرير الذي ربط الإمبراطورية الصينية مع الإمبراطورية الرومانية بمساعدة بعض التجار كوسطاء. وفي القرن الخامس عشر الميلادي شهد المحيط الهندي عبور الأساطيل الصينية الضخمة المؤلفة من مئات السفن مكونة محطات تجارية قصيرة على الساحل الشرقي لأفريقيا، ولكن بعد عدة عقود قام إمبراطور الصين باعتماد سلسلة من القرارات السياسية الخطيرة أوقفت الملاحة البحرية مع الدول ومهدت للانسحاب من أي تطور تكنولوجي آخر، وبذلك فإن حكام الصين كبحوا ثورتهم الصناعية الفتية، وهو ما سمح للدول الأوروبية الصغيرة بالظهور كلاعبين كبار يتابعون زخم العولمة.
وقبيل انتهاء عهد ما قبل العصر الحديث كانت شبكات التجارة العالمية تتألف من عدة خطوط تجارية متشابكة ربطت معظم الأقاليم ذات الكثافة السكانية في أوراسيا وشمال شرق أفريقيا. وجود هذه الشبكات من الانتشار الاقتصادي والثقافي فتح السبيل أمام موجات هائلة من الهجرة والتي بدورها قادت إلى زيادة أخرى في السكان والى نمو سريع في مراكز المدن. غير أن الكثافة السكانية العالية وشدة التفاعل الاجتماعي ضمن المسافات البعيدة أدّيا إلى انتشار أوبئة جديدة مثل الطاعون. هذا الوباء الذي انتشر في أواسط القرن الرابع عشر قتل حوالي ثلث السكان في الصين والشرق الأوسط وأوروبا.
الفترة المبكرة للعصر الحديث
وتمتد هذه الفترة من عام 1500 إلى 1750. مصطلح الحداثة أصبح مقترناً بالقرن الثامن عشر الذي شهد مشروع التنوير الأوروبي في تطوير العلوم الموضوعية وإنجاز شكل عالمي للأخلاق والقانون وتحرير الناس والمنظمات الاجتماعية من الأساطير والأديان والاضطهاد السياسي. أما مصطلح الحداثة المبكرة فيشير إلى الفترة بين التنوير والنهضة، بين هذين القرنين كانت أوروبا وممارساتها الاجتماعية تشكل المحرك الجوهري للعولمة. وبما أن أوروبا لم تساهم كثيراً في التكنولوجيا والإنجازات الحضارية قبل الألف الميلادي، فإن الأوروبيين في شمال غرب الألب استفادوا كثيراً من انتشار الابتكارات التكنولوجية التي نشأت في الثقافات الصينية والإسلامية. إن ظهور مراكز المدن الأوروبية وما ارتبط بها من طبقة التجار مثّل عاملاً مهماً آخر في تقوية ميول العولمة خلال فترة الحداثة الأولى. وبدمج القيم الجديدة للفردية والتراكم المادي اللامحدود، تمكّن المغامرون من رجال الأعمال الأوروبيين وضع الأساس لما سمي لاحقاً بالنظام الرأسمالي العالمي. غير أن هؤلاء الرأسماليين الجدد ما كان باستطاعتهم النجاح في التوسيع العالمي لمشاريعهم التجارية بدون الدعم الكبير من حكوماتهم. لقد أنفق ملوك إسبانيا والبرتغال وهولندا وفرنسا وبريطانيا الكثير من الموارد في استكشاف عوالم جديدة وبناء أسواق إقليمية مترابطة حققت لهم الكثير من المنافع قياساً بشركائهم التجاريين الغرباء. وفي بداية القرن السادس عشر تأسست الشركات المساهمة الوطنية مثل الشركات الهولندية والبريطانية وشركة الهند الشرقية بهدف البدء بنشاطات تجارية دولية مربحة. وعندما اتسع حجم تلك الشركات المبدعة بدأت تكتسب السلطة في تنظيم معظم الإجراءات الاقتصادية بين القارات وفي عملية تطبيق المؤسسات الاجتماعية والممارسات الثقافية التي مكّنت لاحقاً الحكومات الكولونيالية من وضع هذه الأقاليم الأجنبية تحت الحكم السياسي المباشر.
الفترة الحديثة من عام 1750 إلى عام 1970
في أواخر القرن الثامن عشر كان كل من أستراليا وجزر المحيط الهادي يندمجان ببطء مع الشبكة السياسية والاقتصادية والثقافية المسيطر عليها أوروبياً. ونظراً للانطباع الذي تولّد لدى الأوروبيين حول «الآخر»، فإنهم بدأوا يفترضون أن لهم دوراً في رعاية الأخلاق والقانون الدولي. هؤلاء المغامرون الاقتصاديون تمكنوا من نشر فلسفة الفردية والمصلحة الذاتية الرشيدة التي مجدت قيم النظام الرأسمالي القائم على حرية السوق ويده غير المنظورة.
ازداد حجم التجارة العالمية بشكل دراماتيكي بين عام 1850 و 1914 في ظل الدعم من خدمات البنوك المتعددة الجنسية وتدفق البضائع عبر الدول بحرية، وفي ضوء نظام صرف الذهب الذي جعل من السهل تداول العملات الدولية الرئيسية مثل الباوند الاسترليني والجلدر الهولندي. جزء كبير من عالم الجنوب خضع مباشرة تحت السيطرة الكولونيالية. وفي عشية الحرب العالمية الأولى بلغت نسبة البضائع التجارية من الناتج الإجمالي حوالي 12%. كذلك ساعد نظام التسعير العالمي في تسهيل التجارة للبضائع ذات الأهمية الخاصة مثل الحبوب والقطن والمعادن، وظهرت لأول مرة أسماء الماركات التجارية الشهيرة مثل كوكاكولا وماكينات سنجر. ولكي يصبح لتلك الشركات حضوراً دولياً، بدأت شركات الإعلان الدولية بشن حملات دعائية مكثفة عبر الحدود بهدف الترويج وزيادة المبيعات. وتماماً كما يعتقد ماركس وإنجلس، فإن ظهور البرجوازية الأوروبية وما رافقها من تكثيف للترابط العالمي، لم يكن ممكناً لولا القفزة الانفجارية في العلوم والتكنولوجيا في القرن التاسع عشر.
وعلى الجانب الآخر أدّت شبكة القطارات والسفن المتطورة والنقل الجوي إلى التغلب على الحواجز الجغرافية وبالتالي تأسيس بنية تحتية عالمية رافقها خفض في تكاليف النقل. هذه الابتكارات استُكملت بالتطور المذهل في الاتصالات التكنولوجية، فكان اختراع التلغراف وما جرى عليه من تطوير بعد عام 1866 ساهم في نقل المعلومات بسرعة بين طرفي الكرة الأرضية. هذا التلغراف وضع الأساس لتطوير التلفون واتصالات الراديو اللاسلكية ممهداً لظهور شركات جديدة مثل (AT&T). وأخيراً شهد القرن العشرون الاستعمال الواسع للصحف والمجلات والأفلام والتلفزيون والتي عززت من التقارب السريع لهذا العالم.
كذلك شهد العصر الحديث أيضاً انفجاراً غير مسبوق بالكثافة السكانية، فلو قارنّا سكان العالم وقت ولادة المسيح والبالغة 300 مليون نسمة مع عدد السكان عام 1750 البالغ 760 مليون نسمة، نجد أن سكان العالم وصل إلى 3,7 بليون شخص عام 1970. الموجات الهائلة للمهاجرين ساعدت في تبادل الثقافات ونقل الأساليب الاجتماعية التقليدية، وأدّت إلى زيادة الإنتاجية في دول مثل الولايات المتحدة وكندا.
الفترة المعاصرة (من عام 1970)
لاحظنا أن البروز السريع للترابط العالمي والتبادل منذ السبعينات يمثل قفزة أخرى في تاريخ العولمة، لكننا نريد معرفة ماذا يحدث بالضبط ولماذا أصبحت العولمة الكلمة السحرية التي شغلت الرأي العام وأنتجت هذا الكم من الردود الأخلاقية المتصارعة؟ لابد من دراسة أبعاد العولمة الواحد بعد الآخر (البعد الاقتصادي والبعد السياسي والبعد الثقافي) مع التنبيه إلى خطورة اختزال العولمة إلى مظهر واحد، لأن ذلك سيجنبنا الوقوع في الالتباس الذي حصل للعميان في محاولتهم تلمّس الفيل.