تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
العدد:931 2018/12/25
طباعةحفظ


العين تسمع والأذن ترى

ملحق ثقافي
2018/12/25
د. محمود شاهين

ينتمي طراز (الباروك) إلى فنون عصر النهضة، وهو مصطلح ظهر للمرة الأولى في القرن السابع عشر في مهنة صياغة المجوهرات في البرتغال وأوروبا عموماً، ثم صار يُشار به إلى كل عمل فني خرج عن المألوف، أو كان كثير الزخرفة، ثم حمل مدلولاً سلبياً في مجالي الفن التشكيلي والعمارة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

يرى الدكتور ثروت عكاشة بأن العديد من المصطلحات الفنيّة التي استخدمها مؤرخو الفن أول ما ظهرت، كانت من ضمن ألفاظ القدح والذم والاستهجان. فكان لفظ (القوطي) على سبيل المثال، مرادفاً لمعنى المخرّب أو الهمجي المدمّر. وهكذا لفظ (الباروك) ومصطلح (الانطباعيّة) الذي صاغه أحد النقاد في معرض السخريّة والاستهزاء. لكن بالتدريج، أخذت هذه المصطلحات تتخلص من إيحاءاتها السيئة لتستخدم الآن بمعناها الوضعي. أي للإشارة إلى أساليب أو طرز أو مراحل أو مدارس فنيّة معيّنة، باتت الآن تُشكّل المداميك الرئيسة لحركة الفنون العالميّة، بكل أجناسها وأطيافها. مع ذلك يعتقد بعض الباحثين، أن مثل هذه الافتراضات قد تؤدي بنا إلى ألوان من الإيهام والملابسات، على الرغم من أنها قد تكون أحياناً ذات فائدة، لأنها تثير تفكيرنا، غير أن هذه التعريفات التي نلصقها بالمنجزات الفنيّة تختلف الاختلاف كله عن تلك التعريفات ذات الدلالة عند علماء الحشرات التي يُشيرون بها إلى أنواع الفراشات المختلفة، إذ يتعذر عند مناقشة الأعمال الفنيّة أن نفصل فصلاً قاطعاً بين ما هو وصف وما هو نقد. بمعنى أن تحديد الطرز الفنيّة لا يؤدي إلا إلى عزلة كل عمل فني عن غيره، لكن مع ذلك، فإن التصنيف رغم كونه شراً لا بد منه، فهو أداة ضروريّة، ولأنه في الأساس من ابتكار الإنسان، من اليسير عليه أن يعدّله أو يبدّله، وعندها يتحول إلى أداة نافعة.‏

تعديل النظرة‏

أُطلق اصطلاح (باروك) في البداية، على اللوحات أو المنحوتات أو العمارة الخارجة عن القواعد الاتباعيّة (الكلاسيكيّة) والخاضعة لمزاج الفنان وأهوائه، لكن هذه النظرة السلبيّة سرعان ما تبدلت خلال القرن التاسع عشر، حين قدم الباحث الفني السويسري (هاينريش فولفين Heinrich Wolfin ـ1864_ 1942) وجهة نظر جديدة حول الفنون التشكيليّة أشارت إلى أن عصر الباروك حقق في الفن الأوروبي انكفاءً عن هدف التمثيل الموضوعي للأشياء الذي ساد عصر النهضة.‏

بدأ فن الباروك رحلته من إيطاليا إلى فرنسا، وقد استخدم كاتجاه فني في العمارة والفنون التشكيليّة والموسيقى والآداب الأوروبيّة. والباروك هو استعادة أو متابعة لأفكار المرحلة الأخيرة من العصور الوسطى، ومن ثم فهو في العمق أفكار مسيحيّة كاثوليكيّة مرتبطة بفلسفة اللاهوت المسيحي. جنح أدبه نحو التعبير عن المتناقضات وإلى المبالغة في الأسلوب اللغوي، وكذلك إلى الخروج عن القواعد، وهو لا يعبّر عن تجربة ذاتيّة، بل هو استعراض ذو طابع تزييني، يُكثر من استخدام المحسنات الخطابيّة العاطفيّة، لكن لا يجوز النظر إلى الطراز الباروكي من وجهة النظر الجماليّة فحسب، فهو وثيق الارتباط بالظروف الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وخاصة بحركة مناهضة الإصلاح الديني، حتى يمكن القول بأنه التعبير الوجداني عن الكاثوليكيّة، لكنه بالمقابل ساهم بخدمة الأهداف الدنيويّة، وعزز سلطة الملوك والأمراء، ولم يقتصر انتشاره على البلدان الأوروبيّة، بل وصل إلى المكسيك والبرازيل.‏

باروك البندقيّة‏

بدأ طراز الباروك رحلته الحقيقيّة في إيطاليا، وبالذات من البندقيّة التي وفّر لها وضعها الجغرافي والتاريخي أمن وحماية وتجارة رائجة بين الشرق والغرب، ما وفر لمواطنيها رغداً من العيش، ومستوى حياة باذخة ومترفة. ومع أن مدينة البندقية، قد بلغت ذروة مستواها الحضاري خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، إلا أن ثمة تاريخاً طويلاً حاشداً بمآثر التفوق قد سبقهما منذ العصر البيزنطي المبكر.‏

تطلعت عمارة البندقيّة في المرحلة الباروكيّة نحو أشكال جديدة، ومن ثم فإن انتقال المفهوم النحتي إلى ميدانها هو السبب الرئيس في هيمنة الحليات الزخرفيّة على الوظيفة المعماريّة في الطراز الباروكي الذي اشتهر فيه كل من أسانسوفينو وبالاديو، أما على صعيد التصوير البندقي، فظهر يفيللي، وهو فنان من شمال إيطاليا، صوّر مشاهد الطبيعة الساكنة تصويراً رائعاً وبجاذبيّة آسرة مثيرة للحواس. والمصور جوفاني بلليني الذي حقق نقلة ثانية في التصوير البندقي. جاء بعده جنتيلي بيلليني الذي وقع عليه الاختيار في عام 1479 للذهاب إلى القسطنطينية لرسم مجموعة من اللوحات الوجهيّة للسلطان محمد الثاني، ومنها اللوحة الشهيرة المعروضة في الصالة العالميّة بمدينة لندن. كما تُنسب إليه اللوحة الوجهيّة للسلطان قايتباي، والسلطان الغوري. ثم جاء المصور كارباتشيو الذي اهتم بالموضوعات المتعلقة بالحياة اليوميّة لأهل البندقيّة، لاسيّما المواكب والمهرجانات والعلاقات الإنسانيّة الحميمة. جاء بعده جورجوني باربايللي الذي أثر على مجرى مدرسة البندقيّة في التصوير، بعد أن مهد أمامها سبيل اللون والضوء. أتبعه تتسيانو الذي تابع نهج جورجوني نحو عشر سنوات. ثم جاء جاكوبو تنيتوريتو صاحب الرؤى الحالمة، وأعظم فنانين النزعة التكلفيّة الباروكيّة، وأحد عمالقة عصر النهضة اللاحق. أعقبه باولوفير لونيزي الذي يُعد أحد كبار مدرسة التصوير البندقيّة، ثم أندريا مانتنيا الذي نجح في السيطرة على المرسم الذي كان منتدى للأفكار الجديدة. بعده جاء كوريجيو الذي عُرف باسم (مصور ربات الحسن بلا منازع) وهو أستاذ مدرسة بارما وأحد أعظم ستة مصورين في عهد النهضة الشماء (أوج النهضة). ثم جاء جاكوبو باسانو الذي كان بالغ المهارة في معالجة الضوء والبيئة المحيطة حتى ليعد في الحق أول مصور عصري للمناظر الطبيعيّة. وأعقبه كاراماجيو الذي أبدع في النزعة الطبيعيّة التي غدت نقيضاً للتكلفيّة السابقة عليه. ثم جاء كاراتشي الذي يرجع الفضل إليه في محاولة الخروج من براثن النزعة التكلفيّة إلى الواقعيّة. ثم جاء جيدوريني الذي اعتبر أعظم أساتذة التصوير لقدرته الفذة على التكوين الفني، ولتوشيته أعماله الأخيرة باللون الفضي.‏

باروك روما‏

لا تزال العاصمة الإيطاليّة روما تحتفظ حتى اليوم، بشوامخ من الفن الباروكي حتى لتكاد تشكّل بمجموعها مدينة متميزة داخلها، وبات من الشائع (كما يقول الدكتور ثروت عكاشه) أن يُطلق الناس على هذا القسم (روما الباروكيّة) إشارة لتلك الآثار الجليلة البالغة الروعة والرقة، وما يزيد من تأثيرها في الناس، وجودها في العراء، الأمر الذي يجعل هذه الفنون التي تمثل حقبة تاريخيّة مهمة، في متناول آلاف الزائرين، ومئات الدارسين والمتأملين وعشاق الفن والجمال. تمثل أعمال لورنزو برنيني أعظم منجزات الطراز الباروكي في روما. جاء بعده بورميني الذي أصبح باستخدامه الديناميكي للفراغ والإضاءة أبرز ممثلي الطراز الباروكي في مجال العمارة، أما المعماري داكورتونا فكان المبشر الرئيس لطراز الباروك في زخارف الكنائس والقصور بالأسلوب المغالى فيه. وقد جرى العرف على أن النهضة الشماء أو (أوج النهضة) قد جاءت أثر النهضة المبكرة على نحو طبيعي مثلما يتلو الضحى الفجر. وعلى الرغم من أن أساتذة القرن السادس عشر العظام كليوناردو وبرامانتي وميكلانجلو ورافائيل وجورجوني وتيسيانو كانوا على نمط أسلافهم ومُثلهم إلا أنهم عبروا عن تلك المثل تعبيراً أكثر بيانا وإيضاحاً، وبذا غدت أسماؤهم مقرونة بالكمال، لأنهم يمثلون ذروة المرحلة الكلاسيكيّة لفنون عصر النهضة.‏

الباروك الإسباني والفرنسي‏

يمثل الباروك الإسباني في العمارة مبنى الإسكوريال القائم على السفح القاحل لسلسلة جبال جواداراما على بعد ثلاثين ميلاً من مدريد. قام بوضع التصميم الأصلي له خوان باتيستا دي توليدو. أما في حقل التصوير فقد برز الفنان ألغريكو الذي قدم إلى إسبانيا من البندقية (وهو من أصل يوناني) وابتكر صيغاً جديدة في رسم الجسد الإنساني لم يسبق للفن الأوروبي منذ بواكير عصر النهضة الوسيط أن انحرف عن الواقع بمثل هذه الحدة. جاء بعده فيلاسكيز الذي كان على النقيض من ألغريكو فناناً واقعياً يُعنى بما تقع عليه عيناه أكثر من عنايته بعالم الروح الدفين. أعقبه جوزيبي دي ريبيرا الذي تميز بواقعيته الحادة والعاطفيّة.‏

أما الباروك الفرنسي فقد تبلور حول معنيين ممتزجين هما: الاستبداديّة والأكاديميّة. يمثل العمارة الفرنسيّة الباروكيّة قصر اللوفر الذي كُلف بإعادة بنائه لورنزو برنيني، ثم عهد إلى المعماري الفرنسي كلود بيرو. جاء بعده قصر فرساي الذي ساهم في بنائه جول آردوان مانسار. وفي مجال النحت الباروكي الفرنسي ظهر برنيني، وبيير بوجيه الذي خلّد الروح الباروكيّة في تكويناته المفعمة بالغزارة والحركة. وفي حقل التصوير ظهر جان فوكيه الذي بلغت على يديه مدرسة تصوير إقليم اللوار القمة خلال القرن الخامس عشر، وهو أول مصور لعصر النهضة شمال الألب، وكان مثل فان إيك سابقاً لعصره. جاء بعده جان كلويه مصوّر الوجوه الأخاذة لفرانسوا الأول. أعقبه نيقولا بوسان الذي قام بزخرفة بهو قصر اللوفر الكبير، وقد تأثر بوسان بالأسلوب التكلفي والباروكي المعاصر له. بعده جاء كلود لوران الذي ارتقى قمة تصوير المناظر الطبيعيّة خلال القرن السابع عشر. ثم جاء شارل لوبران الذي ابتكر نظام فني شامل، مجّد من خلاله شأن الملكيّة المطلقة. وبرز من مصوري هذه المرحلة جورج ديلاتور الذي قضى معظم حياته في مسقط رأسه بإقليم اللورين وكان من مصوري الملك لويس الثالث عشر. كذلك أوستاش لوسوير الذي تأثر برفائيل إلى حد كبير.‏

طراز الباروك الإنكليزي والألماني‏

اتسم الطراز الباروكي الإنكليزي بالمحدوديّة، وتمثله في العمارة كاتدارئية القديس بولس بلندن التي شيدها كريستوفر رِنّ الذي عاش ما ينوف عن تسعين عاماً مكرساً جهوده في سبيل وطنه، منكراً لذاته. أما التصوير الألماني في هذه الفترة فيمثله ماتياس جرونيفالد الذي اعتبر من أعظم فناني ألمانيا باستثناء ألبرشت دورر، وأعظم تصاويره قاطبة هي لوحة الهيكل في أيزنهايم بالألزاس. جاء بعده الرسام والحفار الشهير ألبرشت دورر الذي كان بلا جدال أعظم فناني عصر النهضة في شمال أوروبا. أعقبه ألبرشت ألتدورفز، وهو مصور ومهندس عمارة من بافاريا، ويمثل أسلوبه عصر النهضة في حوض الدانوب، ثم جاء هانز هولباين الأصغر الذي يعتبر أعظم مصوري الوجوه في عصره، ولوكاس كراناخ الأكبر الذي كان مقرباً من زعيم الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر، وقد عكست لوحات لوكاس ما كانت عليه روح هذا المصلح الديني من حماسة وتوقد. ومن بين من برزوا أيضاً من المصورين الألمان في ذلك العصر آدم إلزهايمر الذي لعبت المناظر الطبيعيّة دوراً كبيراً في أعماله.‏

فن الأراضي المنخفضة‏

يشمل فن الأراضي المنخفضة فن التصوير الفلمنكي والهولندي الذي ظهر في تلك المنطقة التي حفلت بالثراء الفني خلال الفترة الممتدة على مدى القرون: الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، والتي تشغلها أراضي بلجيكا وهولندا الحاليتين. من أشهر من يمثل هذا الفن رويزديل الذي يُعد أعظم مصوري المناظر الطبيعيّة بين المصورين الهولنديين وأشدهم أثراً. جاء بعده الفنان الشهير رامبرانت فان رين الذي اهتم بالتدرجات اللامتناهية للضوء في لوحاته، ورسم وجهه بما يربو على سبعين لوحة. جاء بعده كورنيلليس فان هارلم مصوّر التاريخيات والوجوه، ويان فيرمير الذي حرص على أن يبدو الزمن في لوحاته وقد توقف، كي لا يعكر صفو شخوصه المستغرقين في التفكير الحالم والشاعري. جاء بعده فرانز هالس الذي تنطق لوحاته بالمرح الفياض، وقد تخصص برسم اللوحات الوجهيّة. أعقبه الفنان هوبيما الذي يُعتبر أعظم من صور المناظر الطبيعيّة الهولنديّة في النصف الثاني من القرن السابع عشر. ثم جاء يان فان هويسوم الذي اشتهر برسم الزهور، والاهتمام بالتكوين الفني البالغ الإتقان وثراء التفاصيل الدقيقة.‏

حين بزغت شمس عصر النهضة وشاعت، كان ثمة ثالوث من الفنانين الفلمنكيين بلغوا بفن العصور الوسطى الذروة وهم: أستاذ فليمال، ويان فان إيك، وروجيه فان درفيدن. جاء بعدهم ديريك بوتس، وبيتروس كؤيستوس، وهانز مملتك، وهوجو فان درجوس، وهيرونيموس بوش، وجيرار دافيد، وبروغل الذي يُعد أحد عظام المصورين لما تنفرد به تكويناته الفنيّة من تلقائيّة ووضوح، ولاهتمامه الشديد بالجانب الإنساني الذي يضفي على أعماله نضارة لا تذبل ولا تغيض. ومن أعلام هذه المرحلة بيتربول روبنز الذي تمتع بمواهب فذة أفصحت عن نفسها مبكراً، وقد تميزت لوحاته بالمسحة الحماسيّة الملحميّة التي تميزت بها تصاوير ميكلانجلو وإن خلت من انطوائية روحه، وافتقرت إلى حسه بالتزام الحدود. بعده جاء أنطوني فان دايك الذي كان يرسم أبطاله وبطلاته بأسلوب عبقري مميز، سواء كانوا من الطبقة العليا أم من جماهير الشعب، وسواء كانوا يتصفون بالقبح أو الجمال. جاء بعده بارثولوميس سيرانجر الذي اهتم بالموضوعات الأسطوريّة والرمزيّة والدينيّة والوجوه.‏

إضافة تعليق
اسم صاحب التعليق:
البريد الإلكتروني لصاحب التعليق:
نص التعليق:
 

العدد:931 2018/12/25

الأعداد السابقة

اليوم الشهر السنة
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية