عن تفسير أسباب موت الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات, شيئاً لا يناقض حقيقة قتله بالسم الاسرائيلي المدسوس, لكنه يشرح كيفية وصول السم إلى عرفات, فيقول: «السم الحقيقي الذي قتل عرفات هو ثقته بأميركا وإسرائيل.. أخطاء ما زال أبناء شعبه يدفعون ثمنها»!!
لو كان فيسك عربياً قحاً لكان صاغ فكرته وفقاً لما تردده العامة عند أغلب العرب بأمثولة شعبية تقول « من جرب المجرب كان عقله مخرب», وبمعنى أن الثقة بالآخر تكون قاتلة فقط.. حين لا تأخذ بالحسبان تاريخ هذا الآخر وتجاربه السابقة, آنئذ يخرب العقل وتفسد حكمته وتقع الواقعة حيث لا ينفع فيها ندم أو اعتذار؟
عرفات فرد واحد على أي حال, وقد يكون أخطأ وفقاً لرأي فيسك, حين كانت حاشيته منشغلة بمداهنته ونفاقه من جهة أو بامتيازاتها من الجهة الثانية, لكن.. ماذا يقول المرء في شريحة من السوريين جلها من المثقفين.. وميزة المثقفين عن العامة قدرتهم على القراءة الأوضح للحاضر والمستقبل ومخزونهم المعرفي الأكبر في استعادة التاريخ وتجاربه ودروسه, شريحة أمضت دهراً وهي تقدم نفسها خشبة خلاص ومشروع انتصار في آن معاً, ثم توزعت بين يسار راديكالي واعتدال توافقي, وأهدرت مداد أقلامها وتلافيف دماغها وهي تكتب التاريخ أو تثبت حقائقه وتوصف ملامح صناعه, وترسم حدوداً ولا أوضح للعلاقة مع أميركا وإسرائيل, وبأنهما ستظلان قابعتين في موقع العدو بالنسبة إلى الوجدان الجمعي والضمير العام العربي.. السوري على الأقل, وبأن أي علاقة مع أي منهما لا بد أن تقوم على العداء الذي لا يمكن أن يتيح أي فرصة لأي ثقة بأي منهما, فهما نتاج البنيوية الرأسمالية ونموذج سلوكها المتوحش, وهما المحتلتان الطاغيتان المتعاليتان على حقوق العرب, تحتقران العربي أياً كان وتحتقران حضارته وثقافته وطموحه وحتى إنسانيته.
ومع أن أي ثورة شعبية حقيقية, والمخازين المعرفية من نماذج هذه الثورة كبيرة عند تلك الشريحة من المثقفين السوريين, لا تحتاج أي خارج يعينها أو ينتصر لها مهما بلغت حصانة وقساوة وصمود من تزعم الثوران ضده, فقد انقلبت هذه الشريحة على ذاتها, نسفت كل أرشيفاتها وداست بأقدامها مقدساتها المعرفية ومحاريبها الثقافية, هدمت معبدها على رأسها وتسربلت بأثواب الغباء والخواء واللا جدوى.. رغم الصنعة اللغوية والأسلوبية حين جربت المجرب فوثقت بالأميركي الإسرائيلي في عونها والانتصار لها أولاً, وحين تحولت ثانياً إلى مجرد صدى أجوف لقعقعة السلاح ودوي الذخائر والغرائز لمجموعات محلية أو قادمة كانت هي نفسها تصمها يوماً بالتخلف والبدائية والتعصب الأعمى نتيجة جهلها وضآلة معرفتها وفقرها الثقافي, فاستوت بهذه المجموعات ومعها وباتت جزءاً منها أو ذيلاً لها!
هو الموت بوباء الثقة.. أما السموم فتأتي بعد؟؟