كان ذلك منذ عشرين عاماً وكنا في رحلة إلى أفاميا وإلى متحفها وإلى قلعة المضيق.. وكان المهندس ملاتيوس يشرح ويشرح ونحن مبهورون، مندهشون من أوابد بنيت وصمدت قبل الميلاد ولا تزال على زهوها ورهبة جمالها.. كان العاصي جارها وكانت النواعير تدندن فيصل الصوت إلى الملكة (أفاميا) التي سميت المدينة باسمها بعد أن أمر بذلك الملك الإغريقي (سلوقس..نيكاتور) وذلك قبل ثلاثمئة عام من الميلاد.. كان الملك مغرماً وكانت المرأة مكرمة، ربما أكثر من الآن بكثير، وكانت حرة وصاحبة قرار وإلا ما سميت مدن وصروح عمرانية كثيرة في العالم على اسمها تكريماً وتخليداً لها.
اليوم وقعت بيدي رسالة الباحث ملاتيوس.. كنت أفتح كتاباً عن السفربرلك للشاعر ممدوح عدوان فإذا بالرسالة تسقط.. رسالة من صفحة واحدة مكتوبة بخط اليد.. يشكرني فيها السيد ملاتيوس لأني شاركت في الرحلة إلى أفاميا ولأني كتبت عنها وطالبته شخصياً بتقديم المحاضرات عن أفاميا وتدمر وقلعة سمعان وكثير من الأوابد المهمة في جمعية عاديات اللاذقية التي كان يترأسها الباحث الأثري والموسيقي جبرائيل سعادة.. ولقد ردّ الباحث والمهندس ملاتيوس رغبته وتطوعه لخدمة تاريخ سورية وحضارتها العريقة وكنت أعرف أنه يتقن اللغة التدمرية ويقدم محاضرات في عاديات حمص.. وكان من المفترض أن يكون هناك برنامج لزيارة القلاع القديمة والمسارح والأوابد وإحياء الذاكرة السورية لمعرفة تاريخنا ولنقل هذه المعرفة إلى الأجيال الجديدة التي تكاد تضيع في متاهات النسيان ولا تقدر أهمية إرثنا الحضاري.
نعم وقعت الرسالة بيدي.. كانت مؤرخة في أواسط التسعينيات.. خط جميل، مكتوب بالحبر الأزرق، لكن بكيت وأنا أقرأ الرسالة.. فالباحث غادر البلد منذ بدأت خيانة تاريخ الوطن.. ولم يكمل أبحاثه عن تدمر التي يعرفها العالم كله ويقدرها بينما هناك من السوريين وللأسف من عمل على تدميرها ونهبها وتخريبها الذي انتهى بقتل حارسها الأمين العالم خالد الأسعد.
تراءت لي تدمر وأفاميا.. وملاتيوس وخالد الأسعد والأعمدة الدائرية المصقولة ووجه زنوبيا وهي تنظر باتجاه الغرب.. والغرب بعيد قريب بينما أفاميا تحرس الساحل الشمالي الغربي لمدينة النواعير.. كان يمكن أن تلتقي زنوبيا بأفاميا زوجة سلوقس لولا أننا قطعنا الطريق وذبحنا أوابدنا وجيشنا وكروم الفستق والزيتون ولم يبق حولنا سوى حجارة مبعثرة هنا وهناك لقبائل غازية جاءت من كل حدب وصوب.
طويت الرسالة وفي القلب حسرة على وطن مزقه أهله وعلى آثار عظيمة نهبها شذاذ الآفاق والخونة.. قدموها رخيصة للمعتدين.. فماذا بقي من أفاميا ومن شارعها العريض المرصوف بحجارة الزمن؟
ماذا بقي من تدمر، من شوارعها وأعمدتها ومتاحفها وحراسها؟ أتخيل أن زنوبيا تمرّ مع النسيم ذات فجر وتذرف الدمع على أهلها وقصرها وزمانها وتاريخها وترحل قبل أن ينبلج الضوء حتى لا يرى انكسارها وخيبتها أحد، خيبات تعبر في شارع الأعمدة.. وتحت قوس النصر.. حزن يتمشى في أروقة المعابد إلى أن يتعب فيمضي إلى قلوبنا التي ما عادت تحتمل قصص الخراب وحكايات الدم.
أطوي الرسالة، كأني أطوي الذاكرة أو أغلق باب الزمن رأفة به وبي من الألم وأمسح دمعتي حتى لا يراني أحد.