فأميركا تشعر أن خناق الوقت يضيق عليها من أكثر من جهة، بدءا من الانسحاب من أفغانستان الذي قررت التلاعب في طريقة تنفيذه وإبقاء قدر من تشكيلات القتال العسكرية في البلاد بما يتجاوز الألف كرقم معلن ويصل إلى خمسة آلاف كمتوسط منتظر، قوات تتوخى منها أن تمكنها من ممارسة الضغوط في تلك الدولة بحيث لا تخرج من الفلك الأميركي وتتحول إلى جبهات ومحاور أخرى كما حاولت العراق بعد خروج القوات القتالية الأميركية منها أن تفعل.
وتخشى أميركا أن يكون تمديد التفاوض حول الملف النووي الإيراني التمديد الأخير الذي قد يعقبه نوع من المناكفات التي تجهض التفاهم وتطيح الاتفاق شبه النهائي القائم حول الموضوع والذي اجل التوقيع عليه لحاجة أميركا لترتيب ملفاتها في المنطقة التي ستتعامل فيها مع إيران الأكثر تحررا بعد إسقاط العدوان عليها المتمثل بما يسمى تزويرا العقوبات.
كما تخشى أميركا ما يجري في الميدان العراقي والسوري واندفاع القوات الحكومية الشرعية في البلدين مع مؤازرة فاعـــــلة من قـــوات
شعبية أنشئت بدافع وطني للدفاع عن النفس ضد عدوان خارجي، تخشى نجاح هذه القوى في عمليات التطهير واستعادة السيطرة والاستقرار ما يفقد أميركا الكثير من الأوراق التي تتوخى استعمالها لفرض أنظمة وسلطات هنا وهناك تناسب أطماعها وسياستها.
لكل ذلك ارتأت أميركا كما يبدو، أن تسارع إلى تنفيذ «احتلال احتيالي جزئي ناعم» في العراق مباشرة، وفي سورية بشكل مقنع، تسير به إذا سمحت لها ظروف الميدان والمتغيرات الدولية وحجم التجاوب الإقليمي معها. احتلال يبدو أنها خططت لتنفيذه بطرق أربع متكاملة تعمل كل واحدة منها باتجاه على الشكل التالي:
1) الإمساك الإرهابي بمناطق محددة متصلة ببعضها، يترافق مع حرب استنزاف مؤثرة تشاغل فيها القوى الوطنية في كل من سورية والعراق لإرهاقها ومنعها من استعادة تلك المناطق. لكن مشكلة أميركا في هذا الأمر أن عدوانها الإرهابي عبر هذا السبيل بات مكشوفاً إلى الحد الأقصى، ولم يعد أحد عاقل ليصدق أن أميركا تحارب الإرهاب لا بل العكس هو الصحيح حيث نجد كل من يعنيه امر المنطقة والدفاع عنها يعرف أن أميركا تستثمر بالإرهاب وتدعم الإرهاب من اجل مشاريعها العدوانية، وقد انكشف لمعظم المتابعين أن خدعة التحالف الدولي لم تكن من اجل حرب داعش وأخواتها بل كانت من اجل إنتاج بيئة تخديرية تمنع الحرب الفعلية على داعش لتمكنها من تنفيذ المخطط الأميركي بالسيطرة على ما تريد خدمة لمشروعها.
وفي هذه النقطة بالذات يفهم تحول داعش بأوامر أميركية من الهجوم على عين العرب إلى الهجوم على دير الزور من اجل إخراج الجيش العربي السوري منها ووصل المنطقة بشكل متماسك مع المناطق العراقية التي تسيطر عليها داعش هناك. وقد كان دقيقاً جداً الرئيس بشار الأسد عندما وصف ما تقوم به طائرات التحالف ضد داعش بأنه «عمل تجميلي» ولمن فاته الإمساك ببعض المقصود من المعنى نقول انه تجميل لخطة العدوان الأميركي وليس لشيء آخر.
2) إعداد جيش عراقي رديف لا يأتمر بأمرة الحكومة. وهذا ما تعمل أميركا على إنجازه وهو مشروع يتضمن تدريب وتسليح 50 ألف شخص من العشائر العراقية وتنظيمهم في تشكيلات قتالية وتزويدهم بالأسلحة والذخائر على مختلف مستوياتها وربطها مباشرة بالمنسق العام للعمليات العسكرية الأميركية في المسرح الاستراتيجي الأوسط، في عمل يشكل استعادة لنموذج البشمركة وكردستان العراق. حيث سيكون الأميركي هو القائد الفعلي لمنطقة العشائر، التي ستتجه إلى المطالبة بإقليم ذي حكم ذاتي يشكل نوعا من أنواع التقسيم المقنع كما هو حال أربيل تقريبا.
3) إعداد جيش سوري بديل ممن تسميه أميركا المعارضة المعتدلة لتكون له احدى وظيفتين الأولى تشكيل نواة الجيش السوري الجديد في حال تمكنت أميركا بعد حرب الاستنزاف التي تخوضها حالياً من تحقيق أهداف هذه الحرب وفرض النظام الذي تريد على الدولة السورية، أما الثانية فهي تولي امر المناطق التي تكون قد سيطرت عليها داعش في المناطق السورية وهنا يكون أيضاً استعادة لمشهد كردستان العراق، أو لما يطمح به في منطقة العشائر من خلال مشروع تدريب الـ 50 ألف مقاتل.
وقد بدأت أميركا بتنفيذ بعض متطلبات هذا الأمر من خلال معسكرات التدريب المعدة في كل من الأردن والسعودية وقطر وتركيا حيث سيجري تدريب 25 ألف شخص خلال سنة تنتهي في أواخر ربيع العام 2016، ولهذا تروج أميركا بأن الحرب على داعش طويلة وأنها بحاجة إلى 3 سنوات على الأقل، والحقيقة أن أميركا بحاجة إلى مهلة لا تقل عن سنتين لإنجاز متطلبات مشروع الاحتلال الاحتيالي الناعم في المنطقة. وبهذا يفهم كيف أن أميركا رصدت مؤخراً 5 مليارات دولار أميركي للحرب على داعش، وحقيقة الأمر أن هذه الدفعة هي دفعة أولى في طريق إنجاز الاحتلال الناعم المقنع.
4) الحؤول دون أي حل سياسي موضوعي يخرج سورية من الأزمة التي أنتجها العدوان عليها، بطرح الشروط التعجيزية أمام عملية التحضير للتفاوض أو للمفاوضات ذاتها بغية السير بمفاوضات تؤدي إلى تحقيق أهداف المشروع الأميركي الأصلي المتمثل بالسيطرة على سورية ووضعها في موقع يعاكس تطلعات شعبها وجغرافيتها السياسية ويتنكر لحقوقها الوطنية والقومية.
من أجل ذلك نرى كيف أن أدوات أميركا في العدوان على سورية (من الداخل أو الخارج) يطرحون بين الفينة والفينة طروحات ومشاريع تجعلهم يظهرون بأنهم منفصلون عن الواقع ويتصرفون كأن 30 شهراً من الإنجازات السورية الميدانية على يد الجيش العربي السوري والقوى الحليفة والرديفة، أو السياسية التي حققتها منظومة سياسية دبلوماسية سورية محترفة بارعة، يتصرفون وكأن هذه الإنجازات لم تحصل ويطرحون مشاريع الأحلام التي جرى تداولها في بدء العدوان من قبيل التخلي عن السلطة أو المناطق المحظورة أو المناطق الآمنة إلى ما هنالك من أحلام وخدع راج طرحها في فترة من الفترات. ومن الضروري أن نذكر بأن هؤلاء لا يطرحون مثل هذه الأمور التعجيزية لقناعة منهم بإمكان الاستجابة لها، بل لأن سيدهم الأميركي يريد منهم طرحها لتعرقل أي مخرج سياسي من الأزمة لا يستجيب للأطماع الأميركية في سورية والمنطقة.
لا شك بأن الخطة الأميركية الجديدة مرهقة خاصة من باب الوقت الذي تستلزمه للمواجهة (سنتين على الأقل حتى صيف 2016) ولكن حظوظها من النجاح لا تبدو أكثر من حظوظ سابقاتها التي فشلت، وخاصة أن المدافع عن وطنه وحقوقه يعي هذا الأمر وليس من فراغ أن يقول الرئيس الأسد مؤخراً: إن الحرب على الإرهاب ستكون طويلة. ما يعني أن سورية مستعدة لمثل هذا الأمر وأنها ماضية قدما في المواجهة وأنها تراكم مصادر القوة المتنوعة من ميدانية إلى سياسية وسواها، من اجل زجها في المواجهة الدفاعية التي تخوضها لتراكم بها الإنجازات المهمة التي حققتها وغيرت المشهد في المنطقة لا بل قلبته رأساً على عقب في غير صالح المعتدي. وبهذا القرار نفهم طبيعة عمل الجيش العربي السوري الحالية في أكثر من اتجاه وموقع من أجل منع القوى الإرهابية من الاستقرار في مناطق متصلة متماسكة.
أما على الاتجاه العراقي، فبعد الرفض العراقي لوجود قوات قتالية أميركية على أرض العراق والإعلان عن التقييم العراقي السلبي لعمل التحالف الدولي ضد داعش حتى الآن، والتأكيد على أن من يحارب داعش وينتصر عليها هم العراقيون أنفسهم تحت عناوين رسمية أو شعبية، بعد كل ذلك جاء الرفض العراقي الصريح والحازم لرفض السعي الأميركي لتسليح جماعات عراقية خارج قرار الحكومة وسيطرتها وهذا ما سيعقد المشروع الأميركي بشكل أو بآخر.
وعلى اتجاه الحل السياسي، نجد أن المسعى الروسي في هذا الشأن ورغم أن حظوظه من النجاح محدودة، إلا أن لهذا المسعى وظيفة مزدوجة، الأولى فتح الباب أمام روسيا للعودة للمنطقة بقوة أكبر تضع حداً للاستفراد الأميركي بها، والثاني فضح المناورات الأميركية الهادفة لعرقلة أي حل سياسي في سورية لا يستجيب لأطماعها. وأعتقد أن صورة نائب وزير الخارجية الروسية بوغدانوف مع السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله لم تكن صورة مريحة لأميركا التي تعلم معنى الصورة وما تخفيه وراءها.