وما نشاهده اليوم ونعايشه على مدى ساعات الليل والنهار, عبر وسائل إعلام الفضاء بكل ألوانه ومراميه, يعيدنا إلى بدايات القرن الماضي, إلى العام ,1919 حيث جاءتنا لجنة كينغ - كراين وهي الجناح الأميركي من لجنة الانتداب الدولية كما كانت تعرف في حينه. جاءتنا هذه اللجنة إلى دمشق لتقصي الحقائق حول ماذا يريد أبناء سورية وما تطلعاتهم لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى, ذلك لأن سورية كانت بين الدول العربية التي وقفت إلى جانب الحلفاء في حربهم ضد دول المحور. جاءتنا اللجنة في العاشر من شهر حزيران عام ,1919 وانتهت من مهمتها في الثامن والعشرين من شهر آب من العام نفسه.
وطبعاً ليس مستغرباً الآن, كما كان يمكن أن يكون مستغرباً في تسعينيات القرن الماضي, إذا علمنا أن اللجنة (أوصت) بتطبيق الانتداب على البلاد العربية بعد زوال الحكم العثماني عنها, وذلك عملاً بوصية مجلس الحلفاء أنفسهم بوضع سورية تحت الانتداب الفرنسي. وبذلك لم تخرج هذه اللجنة عن الخطة المرسومة لها باستجابتها لرغبات الحلفاء حول اقتسام مناطق النفوذ في منطقتنا العربية على نحو ما تقرر في اتفاقية سايكس - بيكو الأولى, كما هو التعبير في أيامنا هذه, ضمن المنظور القائل باقتراب المنطقة يوماً بعد آخر من اتفاقية سايكس - بيكو الثانية, وأيضاً على نحو ما نراه في سياق انحياز القاضي ميليس إلى ما خُطط له قبل المجيء إلى المنطقة والبدء بإعداد تقريره عن حقيقة من قتل الحريري.
المهم في هذه المسألة أنها تؤكد ثوابت معينة في سياسة الغرب تجاه العرب عموماً وتجاه سورية خصوصاً. ويزداد حجم تأثير هذه الثوابت بمقدار ما تؤكد الوقائع براءة سورية, بدءاً بشهادة محمد زهير الصديق وانتهاء بشهادة لؤي السقا التي استمعنا إليها مؤخراً يرويها محاميه في استنبول السيد عثمان قرهان على القنوات الفضائية. وأيضاً يزداد حجم تأثير هذه الثوابت التي جُندت لها قوى غاشمة في المنطقة في مقدمتها إسرائيل, كما أوضحت سورية, كما فعلت في سنة 1957 حين استدعت وزارة الخارجية فيها ممثلي عدد من الدول الغربية وحذرتهم من نتائج المؤامرات الجارية للنيل من استقلالها. يومئذ, كما اليوم, قالت الخارجية السورية في المذكرة التي قدمتها لممثلي الدول الغربية: إن الاستفزازات التي تتعرض لها البلاد, سوف تضع العالم كله, وليس المنطقة وحدها, أمام كارثة حرب عالمية مدمرة.
ولا يدري أحدنا إذا كانت ذاكرة الغرب قادرة على استحضار دروس الأمس, وعلى نصح الذات بديلاً عن نصح الآخرين أم لا, خصوصاً في اللحظات التي تنذر بانفجار المنطقة إذا ما أخطأ أحد في هذا الغرب في حساباته, وتحديداً إذا كان هذا الأحد يمثل قوى كبرى في عالمنا اليوم, تمتلك قرار صنع الحدث الذي تريد وصولاً إلى الغاية التي تريد.
إنه التاريخ الذي لابد أن يعود الإنسان إليه بين الحين والحين, ليستخلص منه درساً من هنا ودرساً من هناك.