ثم كم مرة سوف تسقط سقوف أوطاننا على رؤوسنا في ليالي الاحتلال الدامسة، كي يستيقظ من بقي منا في الصباح فيؤسس لوطن جديد وحياة جديدة ويعمر ما هدمه الخراب، وينظف ترابه من سموم اليورانيوم المخصب، ومخلفات السلاح الحديث الذي وزع شظاياه على حقولنا بالتساوي وأحرق نبتها من كل الجهات!
محظوظون نحن بجحافل الغزو، لأن حائط العرب واطٍ، وبلداننا مشاع للقواعد الحربية التي تأكل وتشرب من رزقنا ونفطنا، وبعد كل وجبة شهية نقدمها لها بأيدينا يستدير قراصنتها وينقضون علينا، حيثما كنا ومهما تباينت ألوان أعلامنا، فنحن مضيفوهم ورهائنهم، ونحن محطات وقودهم ومعسكرات تدريبهم وفرائسهم حين يميل مؤشر اقتصادهم نحو الانخفاض، بعضنا يدعي صداقتهم تحت ستار الحماية، فيوسع لهم صدر عواصمه، فيوظفونه صديقاً مياوماً شرط أن يدفع لهم الأجر، وإذا نجح في اختبار الولاء ينال وسامهم الأغلى، ويرقونه إلى رتبة العميل..وبعضنا أدار لهم ظهره، وجرب أن ينام على سادة وطنه بضمير حر، قرأ في كتاب الاستقلال والسيادة، وأطلق أحلامه في الفضاء، فرسم مجسماً لوطن على قياس مواطنيه، تحرسه عزائمهم، وتبنيه زنودهم، يحرثون ترابه في فصل الزرع، ويجنون غلاله في فصل القطاف، هذا البعض منا يجد نفسه على الدوام مهدداً بالغزو، أو فريسة بأيدي الغزاة، ويجد نفسه مدفوعاً بغزيزة الدفاع عن النفس لارتداء درع المقاومة وقبول المنازلة مهما كان ثمنها!
سوف يحدثنا العراقيون طويلاً في الأيام والأشهر والسنين القادمة عن حكاية الغزو التي لن تفرغ منها ذاكرتهم، بعد أن حمل جنود المارينز أمتعتهم وعبروا الطريق المعاكس نحو قواعدهم في الكويت وقواعدهم الأخرى المنتشرة شرقاً وغرباً من شرق آسيا إلى جزر الهاواي، وبعد أن تركوا العراق خلفهم جسداً، يغالب جراحه ويستعجل العافية، بعد قرابة تسعة أعوام من النزيف، قدم له الأميركيون خلالها أحدث وصفاتهم الديمقراطية المحمولة على أجنحة الرعب، وجنازير الدبابات وشرائع السجون المستقاة من مدونات طغاة القرون الوسطى، ونهب الثروات الوطنية العراقية بقانون حق القوة، خدمة لمصارف وول ستريت المأزومة، وإسناداً لاقتصاد على شفير الانهيار!
سوف يحدثنا العراقيون طويلاً عن قصة الغزو التي يسدلون اليوم عليها الستار، وينهضون من بين خرابهم ليتفقدوا قلب بغداد وجدائلها المبعثرة على ضفاف الفرات ودجلة، ويفتشوا مكتباتهم بحثاً عن آثار آدابهم وعلومهم، ويبحثوا في متحفهم الوطني عن كنوزهم التاريخية التي نهبت أو التي نجت من لصوص التاريخ واختبأت خلف الجدران المتداعية.. سوف يحدثنا العراقيون عن القنبلة الأولى التي افتتحت الحريق في بغداد، والشهيد الأول الذي أغمض عينيه وفارق الحياة قبل أن يشهد اغتصاب عاصمته العباسية، والمقاوم الأول الذي كمن لأولى قوافل الغزو على مداخل بغداد، وبئر النفط الأول الذي شربه مندوبو الشركات متعددة الجنسيات القادمون في ركاب الغزو.. وسوف يحدثنا العراقيون عن قيامة الفلوجة، وصقور النجف وثوار الموصل، وفدائيي البصرة، وسفر المقاومة الطويل المخزون في ذاكرة منتظر الزيدي وأقرانه من أحرار العراق!
أما نحن، فسوف نستبق تلك الحكاية العراقية المكنوبة بالدم والفداء، قبل أن يبدأ العراقيون بسردها على مسامعنا، فنفتح أفقاً للفرح وسط سواد حاضرنا، ونستحضر الأمل بشروق جديد للشمس، يطلع هذه المرة من العراق، مجللاً براية النصر، الذي يليق بشعب دفع من دماء بنيه ثمن الحرية والاستقلال!.