تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


التنشـــئة الثقافيـــة.. كيــف تصقلها المؤسسات وترعاها..؟..تبدأُ فردية.. تبتكرْ ثم تنتشرْ وببصمــــــة.. أبجديتهـــــا ســـــــــورية

ثقافة
الاثنين 11-11-2013
 هفاف ميهوب

ندره اليازجي - باحث ومفكِّر:

مواهبٌ وملكات خاصة.. تقدم إلى المجتمع‏

أعتقد أن الثقافة إنجاز حضاري يتجلى في الأبعاد الإنسانية كافة. الاقتصادية منها والسياسية والأدبية والفنية والعلمية,‏

وهنا, أعترف بأن العاملين في هذه النطاقات أو الأبعاد لا يتميزون إلا نادراً, بشخصية مثقفة. هذا, لأن الإنسان المثقف هو الإنسان الحضاري الذي يقدم مواهبه وملكاته إلى المجتمع, ويسعى إلى رفع مستوى أمته وشعبه أولاً, والعالم ثانياً.‏

أذكر بأنني, ومنذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً قرأت مقالة انضوت مضامينها تحت عنوان «جهل المتعلّم». وقد أفادتني تلك المقالة في معرفة أن الجهل يرافق المتعلِّم الذي لم يجعل من علمه ثقافة تتمثل في رقي حضاري وإنساني، وأبقى علمه هذا متحجراً في قوقعة الأنا المتملِّكة، غير المسؤولة، التي تسعى إلى مصلحتها الذاتية، وتقوِّم كل شيء آخر بمقياس محدوديّتها التي تركِّزها في مهنتها. في تلك المقالة، لم أجد ما يشير إلى جهل المثقف، أو إلى جهل المتعلِّم المثقف. وقد دفعتني قراءة تلك المقالة إلى استهلال البحث عن الفرق أو الاختلاف القائم بين الإنسان المتعلِّم لمجرد التعلُّم وبروز الأنا المغلقة والإنسان المتعلِّم والمثقف لمجرد المعرفة والوعي والحكمة.‏

أدركت أن الفرق أو الاختلاف بين المتعلِّم-الجاهل والمتعلِّم-المثقف، الواعي، الباحث عن حقيقة نفسه ومعنى وجوده، قائم في الاختلاف الناشئ بين الإنسان الناجح والإنسان العظيم. علمت أن «السبب» الذي يدفع الإنسان إلى التعلُّم يؤدي إلى النجاح، وأن «الغاية» التي تدعو الإنسان إلى التعلُّم تؤدي به إلى العظمة الكامنة في المعرفة والوعي. استطعت أن أميز بين الإنسان المتعلِّم وبين الإنسان المثقف في الإجابة اللازمة عن سؤال هام هو: لماذا نتعلَّم؟‏

تشير الإجابة إلى التمييز الدقيق بين السببية والغائية. فإذا كان النجاح ناتجاً عن السبب الدافع إلى التعلُّم، كان الإنسان متعلِّماً يحصر علمه في نطاق مصلحته الخاصة دون أن يهتم بمصلحة الآخرين، أو بنفعهم وخيرهم، ودون أن ينظر إلى وضعهم الاجتماعي أو يقدِّر إنسانيتهم، أو معرفتهم أو وجودهم. هذا، لأن جميع الناس، وجميع الأشياء، في رأيه، قد وُجِدوا ليدوروا في فلك علمه ونجاحه إنه إنسان يأخذ أكثر مما يعطي. وإذا كان الوعي أو الحكمة أو العظمة تمثِّل الغاية التي يهدف إليها الإنسان من التعلُّم، بحيث إنه لا يجعل من علمه سبباً للنجاح بل دعوة لتحقيق غاية سامية، وخدمة الإنسانية، وشعور حقيقي بالوجود، أو بناء شخصية متماسكة ومتكاملة، ندرك أنه كائن عارف يمد أبعاده إلى جميع الناس، ويحترم مشاعرهم، ويعتبر أوضاعهم المهنية والاجتماعية، ويتعمق في مضمون المعارف كلها، عندئذ ندرك أنه كائن متعلِّم ومثقف وحضاري.. إنه إنسان يعطي أكثر مما يأخذ.‏

هكذا، نرى كيف يكون الإنسان، مثقفاً وحضارياً يتميز بموقف مشارك، كلِّي وشامل، بالأمور والقضايا التي تحيط به، وبسلوك إنساني أصيل إزاء جميع الناس، باختلاف أنواعهم وأعمالهم، وبتفهُّم واعٍ للمعنى المتضمن والمغزى الكامن في ثقافة علمه وعمله، وبإدراك يشير إلى تجرد علمه من ذاته الفردية فقط، وانتماء ثقافة علمه إلى الجماعة الإنسانية المتمثلة بالمجتمع وبالبشرية على حد سواء.‏

أيضاً, ولما كانت الدولة بمؤسساتها هي الصورة المثلى للمجتمع، فإنها تحتوي، في ذاتها، جميع الفعاليات والإمكانات. وتأبى هذه الفعاليات تنشيط ذاتها في ظل الفردية. وفي هذا الوضع، يعجز المجتمع عن تشكيل دولة في ظل تاريخ لم يعبّر عن وجود مفهوم الدولة، وهي النطاق الذي يتحول فيه العمل الفردي إلى نفع اجتماعي. إذن، فالفرد أو المجتمع الذي لا يرسم لذاته صورة ثقافية وحضارية ضمن إطار الدولة، هو مجتمع ينتمي إلى تقاليد عنصرية أو عرقية، أو مذهبية، أو قبلية، أو عشائرية، أو عائلية، أو طبقية، وإلى أعراف وطقوس تنأى به عن حقل الثقافة والحضارة. وفي هذه الحالة، يعجز عن تكوين الدولة وهو مازال عالقاً بشبكة فرديته التي ترتسم على صفحة الانتماء إلى الطقوس التي تسلب مفهوم الحضارة والثقافة حقيقته.‏

إدوارد شمعون:‏

تبدأُ كمشروعٍ فردي.. قوامهُ أبجدية الوطن‏

تكتبُ الأمم تاريخها وترسم حدودها, بمدادِ الدم والنار. مدادِ الحروب والدمار. إلا سورية, فهي تكتب تاريخها وترسم حدودها بمدادِ النور.. نور هَدي الرسالات السماوية, وأنوار أبجديتها وكتاباتها وعلومها وفنونها وتراثها وحضارتها. أيضا, قوانينها التي أشرقت أولاً على أرض الرافدين, ومن ثمَ على ساحلها الفينيقي, لتتوالى بعدها إشراقاتها الحضارية على الأرض الواقعة بين البحر الأسود شمالاً وجزيرة العرب جنوباً, وبين بلاد السند «إيران» وحتى «كريت ومصر وقرطاجة غرباً, وهذا بحسب المؤرخ الإغريقي «هيرودوت» أبو التاريخ قديماً, و»هنري جيمس برستند» مؤرخ العصور الحديثة.‏

كتبنا في أول دراساتنا, أن أم النور هي سورية, مليكة الدنيا الطالعة منذ الأزل شمساً على ممالكها. الجالسة حكمة وحسناً, على عرش عروشها. هذا ما كتبته ونشر في جريدة «البعث» بتاريخ 15/10/2001، وكمقدمة لدراسة عنوانها «الشعر الغنائي السوري وأثره في أصول الشعر الفرنسي والأوروبي»..‏

كتبتُ أيضاً, وكمقدمة لدراسة عنوانها «الشعر الآرامي السوري وآثره في أصول الشعر الاسباني». الدراسة التي نشرت بتاريخ 25/8/2002, وفي جريدة «البعث» ذاتها, بأن خلاصة كل ما ابتكرناه واكتشفناه, أن كل كاتب أو شاعر أو موسيقي مدينٌ لسورية بأبجدية كتابته, وفي هذه الدراسة أثبتُ أن الأسبان أخذوا الإيقاع من النظم السوري وكذلك أخذوا النغمة والآلة الموسيقية المرافقة.‏

هذا ما كتبته أيضاً, على أعلى وأدنى «كمان هيروشيما» وهو الكمان الذي سأقدمه قريباً إلى «يعقوب الحلو» مندوب الأمم المتحدة في سورية. هذا الكمان الذي كنتُ قد أرسلته في 31/8/2006 في ذكرى السلام إلى متحف «هيروشيما» العالمي, وقد انحنى يومها السفير الأميركي أمام الكلمات التي كتبت عليه. أمام الترتيلة الأكادية التي تقول: «يا ليل.. يا ليل.. يا ليل» وليس لمعناها الطربي وإنما لمعناها الحزين الذي يرثي مدينتي «هيروشيما وناغازاكي اللتين قصفتهما أميركا بقنبلتين ذريتين في 6/8/1945 و9/8/1945, ودون أن يكن هناك داعٍ لقيام الحقدِ الأميركي باستخدام هذه القنابل لطالما, كانت إيطاليا وألمانيا قد استسلمتا..‏

لقد بدأت بهذه المقدمة لأقول, بأن الثقافة تبدأ كمشروع فردي قوامه أبجدية الوطن. الأبجدية التي تلهمُ إبداع الكاتب وخيال الشاعر ولحن الموسيقي, وإلى أن يتحول مشروعه الفردي - الشخصي. المؤثر والعظيم, إلى مشروع جماعي يدلُّ على أن الأبجدية التي ألهمته عظيمة ومؤثرة وحضارية وقادرة على أن تسمو بمكانة بلده على مستوى اإذاً, الثقافة ليست عبارة عن إلمامِ من يدَّعيها بما طاب له أن يختار. الثقافة تعني الإبداع والوعي وتنمية الفكر.. تعني الخلق والاختراع وكل ما يراد منه تحويل الإبداع الفردي والإنساني إلى جماعي يرتقي بالمجتمع والوطن بما يقدمه من روائع الأفكار والابتكار.‏

حتماً, وفي حال تحقق هذا, تتحول الثقافة إلى تشاركية, ويعود ذلك إلى المؤسسات المعنية بها والتي من واجبها الاهتمام بهؤلاء المثقفين والمبدعين والموسيقيين, أيضاً, تشجيعهم ودعمهم وتسهيل سبل الإبداع لهم, وإلى أن يتمّ بمساندة هذه المؤسسات, نشر هذه الثقافة على مستوى المجتمع أولاً, ومن أجل أن يستفيد ويرتقي ويسمو فكر كل فردٍ من أفرادِ وطنٍ, على جميع من يدعون بأنهم مثقفون, أن يتركوا فيه بصمة امتنانٍ تدلُّ وتذكِّر العالم بما ذكَّرت به ولا تزال, الأبجدية والثقافة السورية.‏

نهايةً‏

لابد من التساؤل: هل تمكَّن العقل العربي من امتلاكِ ثقافة ابتكرَ بها ما أريد منه توعية أفراد المجتمع بما يرتقي به وبهم؟.. سؤالٌ, يبدو أن السلفية العقلية همَّشت أي إمكانيةٍ لجعل الإجابة عليه دون شوائب لطالما, مثقف اليوم عموماً ليس إلا امتداداً لنخبة الأمس في تعاملها مع المجتمع وقضاياه.. ليس إلا امتداداً لثقافةٍ جعلته في فوضى وازدواجية. ثقافة جعلته يدور حول أفكاره المفرَّغة من جدواها, ودون أن يعلم إن كان فعلاً مع أو ضد الوطن وأفراده.. إن كان يرتقي بهما أو يحطّ من مكانتهما..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية