لا ترى صواباً في الفكر إلا فيما هي عليه، وتحكم بتكفير كل من ليس على نهجها، وتتشبث بمقولات هي لبشر اجتهدوا في أمر ما، فوضعوا تلك الاجتهادات في مقام المقدس الذي يعني المساس به الدخول في الكفر وبذلك أغلقوا العقل، واعتقلوه، وقد عرفت البشرية أمثال هؤلاء في مختلف المعتقدات، وفي مثل هذا القول من الخزل والاختزال ما يسيء للعقل البشري، ولأحكام الديانات السماوية التي وضعت العقل والتفكر في مقام رفيع من الاحترام، انطلاقاً من أفق أشمل يمكن القول إن الظلامية لا تعني أهل التعصب، والخرافة، فقط بل هي تضم إليهم وفي المرتبة ذاتها (الاستغلاليين) الذين يستحلون جهد الآخر، وهو ما يوصل إلى إفقاره، وحرمانه من إنسانيته، لأن الفقر و.. تحقق الإنسانية لا يجتمعان، وهكذا يشمل التعريف تلك الجبهة المتكاتفة، والمتكالبة، والمتمثلة الآن في حكام الغرب الاستعماري، مضافاً إليهم حكام العرب، من مشيخات زيت الكاز والنفط، ومن قبل أن يكون ملحقاً من أمثالهم على امتداد هذه الأرض فهم معسكر واحد، وحلف متضامن، وتاريخنا الحديث في الوطن العربي، وفي عدد من بلدان الشرق خير شاهد على ذلك فحكام هذا المشرق كانوا إلا في القليل النادر ذيولاً لحكام عواصم الغرب المتقدم تكنولوجياً، وفي هذا السياق لا فرق بين من ينظم مهرجانات السينما ومنظم مهرجان سباق (الهجن) فكلهم ينطلقون من نقطة قبول الاستغلال وجني الأرباح ولا يكون ذلك إلا على حساب الفقراء.
إن الذين ينفقون الملايين للارتياد على دراسة ما يذهب بالناس إلى الغرق في الجنس والقمار وتفسخ الأخلاق... هم في صف واحد مع الذين ينفقون مثلها، أو أضعافها على تقوية فحولتهم، فكلاهما يشطب ذلك الحضور المؤلم، الواسع للشرائح الفقيرة، ففقراء نيويورك هم إخوة في الفقر مع فقراء ممالك ومشيخات القطران والفيول ومشتقاتها.
لقد دعم الغرب أسس الرأسمالية المتوحشة عبر مخادعة شكلية للعبة الديمقراطية وخاض حرباً طاحنة لإسقاط المنظومة الاشتراكية، وهو الآن يتابع خوضها عبر تسويق (الإجراء) الديموقراطي ورغم كل ما نهبه من البلدان الطامحة للنمو، بما له من أثر في تخفيف أعراض السرطان الرأسمالي، فقد ظلت تلك المجتمعات النهابة تتعرف يومياً إلى المشردين الذين لا بيوت لهم، ولا يستطيعون تأمين قوت يومهم إلا عبر أكوام القمامة، فأي ظلامية وراء هذه بعد؟!
قد يلوح وراء هذا الكلام نشدان أخلاقي، وأنا لا أتستر عليه، بل أرى أن النهوض الاجتماعي، أو حتى إنجاز الحضارة حين تفتقر إلى الأخلاق، فسوف تصل إلى تشريع المثلية، والتآمر على اقتلاع شعب من أرضه لإحلال مجموعات بشرية محله، وإلى دعم تجار المخدرات، والمافيات، والاعتماد عليها.
إن أزمنة تسقط الجانب الأخلاقي هي أزمنة موغلة في الظلام مهما بلغ عدد الأضواء المحيطة برداءاتها.
-2-
ربطاً بما قلناه آنفاً، وبهدف الوصول، لنعد قليلاً إلى الوراء، إلى سبعينيات القرن الماضي، فبعد هزيمة 1967م كان على حكام العرب أن يعيدوا الكثير من حساباتهم ومن منطلق أن المعركة هي معركة تحرر وطني، وجد العروبيون، وبعض فصائل اليسار أن المعركة تستوعب أن ينضم إليها حكام عرب، بعضهم معروف بأن عرشه هو من صنع بريطانيا، وهي الحامية له، وبعضهم الآخر يخفي الكثير من معالم حقيقته وراء الصمت، وادعاء العقلانية، وكانت فكرة الاستفادة من جميع الطاقات هي الغالبة، ترسيخاً لمفهوم قومية المعركة، وبدا لفترة من الزمن أنه خيار عقلاني لا غبار عليه، وجاءت حرب تشرين التحريرية، والتي رافقها حضور النفط بثقله الهائل لتضع الفكرة في مقدمة الاستراتيجيات المعتمدة، وذلك صحيح من الناحية النظرية وساعد على تقبل ذلك الطرح النتائج التي حققتها تلك الحرب على الرغم من ذهاب السادات إلى إسرائيل.
هنا لابد من أن نركز على أن كل الإيجابيات التي يمكن أن نتفق أن حرب تشرين قد حققتها هي ابنة (المواجهة)، والمقاومة، وليست ابنة مساندة رخوة ما تكاد تشكل شيئاً، قياساً بدماء الشهداء، كما يزعم الجانب النفطي، وهذا ما أثبتته مجريات الأحداث، وتطوراتها فيما بعد، فالمقاومة هي الروح التي حفظت وحدة هذه البلاد من الماء إلى الماء.
يوم جاء كيسنجر وقابل القائد الراحل حافظ الأسد وقال له بكلام فيه الكثير من الإيحاء: «إن دمشق على مرمى المدفعية الإسرائيلية»، كان الجواب «نحن نتحداهم أن يظلوا في أماكنهم».
ويوم قدم كولن باول شروط واشنطن للرئيس بشار الأسد، بعد احتلال العراق وواشنطن في ذروة انتصارها والوطن العربي في وهدة انكساره، كان الجواب الرفض.
إنها روح المقاومة التي تقرأ التاريخ وتستلهم روح الأمة في أدق المراحل الصعبة.
لقد طرحت منذ سبعينيات القرن الماضي موضوعة (التضامن العربي) وقد صفقنا لها جميعاً، غير أن ذلك لم يستمر عقداً من الزمن فكانت كامب ديفيد التي دخل ظلماتها أنور السادات وأدخل الأمة كلها في سراديب مظلمة بمساندة كبيرة من الدول الظلامية وأعقب ذلك استمرار نظام مبارك على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، والجامعة العربية ممثلة ذلك (التضامن) لم تقف ولو مرة واحدة للدفاع عن قراراتها المتعلقة في فلسطين بينما انصبت انصباب السيل حين أخذ الأعراب الأجراب زمام المبادرة العلنية للوقوف في وجه سورية.
إن ما سبق يعني ضرورة إسقاط أي رهان في المستقبل على المواقع الظلامية المتخلفة، وأن يكون التوجه إلى التنظيمات الجماهيرية، والنقابية، والتشكيلات الفاعلة على مدى الوطن العربي أي العودة إلى الروح الجماهيرية التي أثبت حدسها وصدقها أنها مؤهلة لأن تلعب دورها التاريخي الذي ألغته وأبعدته التحركات الرسمية الملغومة والمشبوهة وهذا يعني أن مفهوم التضامن العربي حين لا يرقى إلى مستوى الوعي بالمرحلة وحين يقصر عن أداء دوره هو لعبة مخترقة وأكذوبة كبيرة.
-3-
من اللافت في هذا السياق موقف المثقفين على امتداد الساحة العربية وإن بنسب مختلفة ونذكر المثقفين وفي الاعتبار أن المثقف طليعة في الوعي وفي التبشير، ويفترض أنه يشكل قدوة للآخرين ومن أسف أن هذا الافتراض لم يكن بحجم الواقع ويمكن ملاحظة مايلي في هذا الميدان:
أ- الأكثرية وقفت تراقب، والحكم على النوايا ضرب من التنجيم ليس بسبب عدم وضوح الرؤية بل لأسباب كثيرة بعضها ذاتي وبعضها الآخر موضوعي وهذا يحتاج إلى تنقيب وتوضيح وتخمين.
ب- ثمة من انجر، بدوافع تحتاج كذلك إلى التحليل والرصد، فوقف إلى جانب القوى الظلامية وتحالف أو آزر أو أظهر ميله إليها على ما بينه وبينها من فوارق وفوالق، فكان من غير الأعاجيب أن نجد يسارياً أو تقدمياً يقف على يمين تكفيريين ظلاميين، لا يخجلون من ارتباطهم بدوائر المخابرات الغربية والإسرائيلية.
ت- ثمة من لم تحجب الرؤية عنه تلك العواصف فأعلن اصطفافه دفاعاً عن كرامة الأمة ووحدة الوطن ونشداناً للتعددية والإصلاح ولامتلاك أدوات المواجهة بكل أنواعها.
إن خصوصية ما جرى منذ ما سمي بالربيع العربي حتى الآن يضع قوى هذه الأمة الحية أمام مرحلة جديدة كل الجدة، فقد خرجت القصور العربية الحاكمة إلى علن الاستجابة لما تريده دوائر الغرب الاستعماري، وصارت جبهة المواجهة أكثر اتساعاً بيد أنها أكثر وضوحاً فمواجهة تلك القصور المرتبطة، الظلامية، العميلة، ليست أقل شأناً من مواجهة المشروع الصهيوني الذي باض وفرخ في أحضان أصحاب الجلالة والسيادة.
إن روح المقاومة والإعراض عن مسيرة ما مضى وقد خبرناه جيداً ولم نحصد من ورائه غير الفشل والإعداد والاستعداد هي الخيار الثوري الوحيد الموصل لتحقيق الأهداف بعيداً عن تآمر تلك القصور واعتماداً على التجربة المنجزة التي عرفناها في جنوب لبنان وغزة والتي كانت تستند إلى قلعة لاتخذل من وثق بها هي دمشق المقاومة.
ثمة الآن زمن عربي يولد، ثمة نظام عالمي جديد ترتسم ملامحه، وهذا يحتاج إلى أفكار ورؤى جديدة مواكبة وإلى صيغ من العمل الجماهيري والثقافي الجديد.
aaalnaem@gmail.com