يلزمني مقهى أزينه بقبراتِ التفعيلة المستعصية على رواد النشيد، حتى لا أشرب قهوة الأعداء، ولا يقاسمني الجوع المحتمل دمعي مع حبات القمح. يلزمني الصمت حتى لا تقهر حنجرتي الكلمات الغريبة، واشتقاقات المفردات الضارة، فلا أتنفس في قامات الآخرين».
بدايةٌ، اختارتها الكاتبة والأديبة «زهرة عبد الجليل الكوسى» مما قاله الشاعر «عبد الكريم عبد الرحيم» عن قهر ومعاناة كلّ مناضل مثل «إبراهيم سلامة». الشاعر الأسير في سجن «عسقلان» الصهيوني، والذي مثلما وثّقت سيرة سجنه وعذابه وقهره ومعاناته، وثّقت أيضاً، سيرة بطولته ومقاومته ومواجهته للاحتلال ومعتقلاته..
هذا ما وثَّقته «زهرة» في روايةٍ جهرتْ «بالمستنطق والمتواري والمخفي، داخل أمكنةٍ أعدَّت للموت البطيء».. موت الحياة لدى كل الأسرى الفلسطينيين الذين اختُزلت الحياة لديهم ضمن معتقلاتٍ، لم يتحرّر منها أول الفدائيين الذين عبروا نهر الأردن باتجاه الأرض المحتلة، إلا بعد أن شابَ فيه إلا عشقه لوطنٍ، بقي يسكنهُ أبدَ المعاناة التي تحمّلها لأجله.
إنه الفدائي-الأسير الذي ومثلما كان محط اهتمام وإلهام أشهر الأدباء والشعراء.. كان أيضاً، من أشهر الكتاب والشعراء الذين رفضوا الحياة والبقاء، دون وطنٍ يتنفسونه تحت «قبة السماء».
لاشك أنها سيرةٌ «تتعدى رحلة التأمل والقفز فوق ماهو موجود إلى خارج تلك الحدود».. الرحلة التي بحثت فيها «زهرة» عن «صيرورة المبدأ لدى «سلامة» الذي كان «رائداً في سجنه كما في كلماته. ذلك أنه لم يكتفِ بالبندقية، بل أضاف لها الفكر وأشكال الفنون الإبداعية».
أرادت إنصافه فأسمته الجندي المجهول، وكانت ترصع روايتها عبر كل سؤال منها وجواب منه، بمفرداتٍ أودعتها في ذمّة التاريخ الشاهد والمسؤول.. الشاهد على جراحه، والمسؤول عن بلسمتها بالوفاء لآلامه التي بدأت من النكبة وصلابة موقفه وقوة عقيدته، وصولاً إلى المعاناة التي لم تنتهِ لطالما أقسم بأن ينتقم من مغتصب أرضه وروحه.
لقد أوجعته كلمة لاجئ ونازح، فتألم وأبى إلا العودة يسبقهُ صوته الصارخ:
«أنا حالمٌ بعودتي، ولن أقبل الخيمة بديلاً عن بيت وحكايات جدتي، وأشعر أن تغيير مكان طفولتي، وتغيُّر أقراني، بل حتى تغيُّر اسمي، جعلني دائم التحفز للعودة..».
كانت «زهرة» توجه أسئلتها، وتُبدع باستدعاءِ الذات التي جاوبتها: «ليس الإنسان وحده من يألف المكان ويحبه، بل إن المكان نفسه يشكل مصدر ثقة وإبداع، ويصبح عاقلاً يألف الإنسان نفسه، وهذه الجدلية تجعلنا ندرك نداء الوطن، وحنين أرض وشوق أمكنته.. أحسب أن «إبراهيم» سمع النداء فانطلق.
انطلق من حكايا طفولته في وطنه، إلى حكايا «القهر» في سجنِ عدوه.. حكاية النضال الذي بدأه في دمشق وصولاً إلى ما أراد منه الشهادة وليس الأسر.. لكن.. «ربما كانت الشهادة طموح كلّ المناضلين، لأن في الأسر عذاباً أكبر، إذ يقف المناضل أمام عدوه وجهاً لوجه، وأمام حقيقة نفسه، وحقيقة الرفاق، ويبدأ التحدي على كلّ الأصعدة. الجسدية، الفكرية، الأخلاقية والنفسية».
إنه التحدي الذي جعل «الموت وبكلّ تجلياته أمرٌ حتميّ، فهناك موتٌ آخر يختبئ تحت جلد المحققين، وهو ما يجعل التعذيب أقل طلباً من الموتِ.. الموت الأكبر، في طريقة القتل والكيفية التي تُوصل إلى موتٍ محقق. هنا يسير الموت ملاصقاً روح وحياة كل المعتقلين، ففي كلّ لحظة يعانقونه شرفاً ولا يصلونه».
كل ذلك وسواه من الأوجاع النفسية والجسدية.. المعاملة السيئة، والحرمان من النوم والراحة وأيضاً أصوات الرفاق يصرخون من الألم إثر التعذيب وتفكِّك المفاصل والإهانات الشخصية.. كل ذلك، يجعل شخصية الأسير مهزومة إلا مع ذاته وسؤاله:
«وماذا بعد؟!!.. في البدء كان الوطن، وفي النهاية يكون الوطن، ومابين البداية والنهاية إنسان يُشعل روحه، وربما تتوالى الأرواح، تلدُ اشتعالاً، وقد لا يأتي من يضيف إلى الموتِ حقيقة أكبر».
بعد سنوات العذاب، يبدأ الاضراب رافضاً حتى الهواء. محاولاتٌ للضغط على الأسير ولو بالقسوة.. تصلّب في المواقف وصولاً إلى «قبة السماء».
أخيراً يتحرّر الأسير، وما أكثر جراحاته التي ينزفها على سرير الاحتضار الأخير.. يلفظ أنفاسه، فتحاول «زهرة» انتزاع عصارة ألمه من كلماته:
«عندما ترحل إلى الوطن، وتعود إلى الحنين والشوق أرقاً، يتسامى الجرح، ويتحول الدم إلى زئيرٍ أبدي مستحيل الخفوت، وكريات دمكَ دبوسٌ ينغرس بين العقل والإدراك. لحظة، وإذ أنت الوطن والوطن فيك.
ماذا لديك؟.. القليل من بقايا جسد، فتكت به أساليب القمع، أو محاولة لتموت حياً وأنت تعلن العصيان والصراخ: «أنا صيرورة النضال.. الفلسطيني المهاجر من يافا إلى عكا، ومن ذاتي إلى ذاتي، ومن حزني لأحزاني. أنا الفلسطيني يشدُّني أسري إلى جذري. لا أشبه أحداً، وأنا الملك والمالك، القتيل والمنتصر..».
في الختام نقول:
«زهرة عبد الجليل الكوسى» كاتبة وشاعرة الوطن والإنسان والقضية الفلسطينية. تقيم في دمشق، وقد صدر لها: «بساط من جمر» و»العبور إلى المنفى» و»عشق دمشقي» و»الحلم المسافر» و»الطريق إليك» و»أنين الرمال».
«قبة السماء» هي سيرة ذاتية صادرة عن مؤسسة «سوريانا» للإنتاج الإعلامي في دمشق، وفيها دوّنت الكاتبة مذكرات زوجها-الأسير.
«إبراهيم سلامة»: مناضلٌ وأسيرٌ فلسطيني.. لم تمنعه معتقلات الاحتلال من الإبداع ولاسيما في كتابة الشعر.
من أعماله: «أغنيات لامرأة تسكنني» و«تراتيل مقدسية» و«سفير للريح» و»تغريبة ابن سلامة».. له أيضاً: مجموعة قصصية هي «غرباء» و رواية «نافذة في جدار قبر»..