بتأليفِ كتابٍ نظيرٍ له, إن لم يكن ينافسه ويتغلب عليه, وفي أفكاره المتعلقة بجهنم والثواب والعقاب, وبالإله الواحد الذي يحاسب على الأعمال, إلى جانب أفكارٍ أخرى تمجِّد العقل وتجعله الحاكم المُسيطر..
في الكتاب أيضاً, ثمّة سياسة ميكافيلية شريرة في أنوع حيلها.. تلك الحيل التي تُعرض بطريقةٍ تجعل الحياة لدى القارئ, إما قوي متمكِّن من الحيلة وهو العاقل الناجي, وإما مهضوم الحق لا سبيل إلى خلاصةِ. بمعنى, إما أن تُعاش الحياة بمرتبةٍ عليا أو دنيا, وغالباً ما يضيع الحقّ دون أن يدافع أو يطالب به أحد..
أما عن هذا الكتاب, فهو «كليلة ودمنة» وأما عمَّن نقله إلى العربية, فـ «ابن المقفع» الكاتب والمترجم الفارسي, الذي كان مشهوداً له بالفصاحة والبلاغة, والذي ترجم أعمالاً كثيرة كان أشهرها هذا الكتاب..
ننتقل إلى المؤلف الحقيقي للكتاب والذي هو «بيدبا» الفيلسوف الهندي الذي كلنا يُرجع إليه كحكيمٍ في معالجة الأمور, والذي جعل كتابه على ألسنة البهائم والطير, صيانةً له وتنزيهاً للحكمة وفنونها ومحاسنها وعيونها لطالما, اعتبر الحكمة : «للفيلسوف مندوحة (سعة وفسحة) ولخاطرهِ مفتوحة, ولمحبِّيها تثقيفٌ, ولطالبيها تشريف»..
لكن, لقد كان تأليف هذا الكتاب بحاجةٍ إلى سببٍ, وهو السبب الذي ذكره «علي بن الشاه الفارسي» في مقدمة كتاب «كليلة ودِمنة» الذي استهله القول:
«كان السبب الذي من أجله وضع «بيدبا» الفيلسوف الهندي لـ «دبشليم» ملك الهند, كتاب «كليلة ودِمنة», أن الإسكندر ذا القرنين الرومي (ليس المذكور في القرآن قطعاً وإنما هو رجلٌ وثني).. لما فرغَ من أمرِ ملوك الفرس وغيرهم, لم يزل يحارب من نازعه, ويُوقع من واقعه, حتى ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلَّب على من حاربه, فتفرَّقوا طرائق وتمزَّقوا خرائق «قطع» فتوجه بجنودهِ إلى بلاد الصين, فبدأ بملك الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول في ولايته..
كان على الهندِ يومها, ملك ذو سطوة ومراسٍ وحكمةٍ يقالُ له «فُور» فلما بلغهُ إقبال ذي القرنين نحوه, تأهَّب لمحاربته وجمع له من الفيلة والسباع والخيول المُسرجة والسيوف القاطعة والحراب اللامعة, ما جعل الاسكندر يتخوَّف من تقصيرٍ يقع به إن عجَل المبارزة, فتأنَّى إلى أن دبَّر حيلة دفعته لأن يطلب من أمهرِ الصنّاع أن يصنعوا لهُ خيلاً من نحاسٍ مجوَّفة عليها تماثيلٌ من رجال, ومحشوّة بالنفطِ والكبريت, وأن تُلبَّس الرجال وتُقدَّم الخيول أمام الصف المقاتل وفي الوقت الذي تلتقي فيه مع جيشِ العدو الذي أراد للنيران أن تلتهمه..
بعد أن جهَّز الصنَّاع ما كان الاسكندر قد أمرَ به, أرسلَ إلى «فور» يدعوه مرة أخرى إلى طاعتهِ, فأجاب ملك الهند جواب المُصرِّ على مخالفته, المقيم على محاربته, ما جعل ذو القرنين يسير إليه بما أعدَّه من خيلٍ سرعانَ ما دفعتها فيلة «فور» التي سارعت للفِّ خراطيمها عليها, لتقوم وبعد أن أحسَّت بالحرارة, بإلقاءِ من عليها ووطأهم تحت أرجلها ومن ثمَّ الهروب, ما أدى إلى انتصار الاسكندر وهزيمةِ «فور» الذي تبعه أصحاب الاسكندر وأثخنوا برجاله الجراح... «فور» الذي سارع بالخروج لمقارعة عدوّه الذي ناداه صارخاً: «يا ملك الهند.. ابرز إلينا وابقِ على عدتّك وعيالك, ولا تحملهم إلى الفناء», والذي ما أن خرج حتى عاجله الاسكندر بضربةٍ قضت عليه, وأوقعت الذعر بين من تبقى من رجاله الذين باتوا تحت سيطرة الاسكندر..
بعدها, انصرف الاسكندر إلى شؤونه وخلف عليهم رجلاً لم يطيعوه بل خلعوه وملَّكوا عليهم «دبشليم» الملك الذي ما أن استوثق له الأمر واستقرَّ له المُلك, حتى طغى وتكبَّر وجعل يغزو من حوله, ويعبث بالرعية ويظلمهم ويستصغر أمرهم, وهكذا إلى أن أتى «بيدبا» الفيلسوف الهندي الفاضل الذي سارع بعد ما رآه من ظلم الملك وإساءته, للحيلة التي أراد منها صرفه عما هو عليه وردّه إلى العدل والإنصاف, وهو ما استشار لأجله تلامذته ممَّن عجزوا عن إقناعه بعدم التورط مع هكذا ملك ظالم, ودون أن يهتم لطالما, كان قد قرَّر الدخول على الملك الذي اشترطَ على «بيدبا» كي يعفو عن تجرؤهِ عليه, تأليف كتابٍ وخلال عامٍ فقط, وهو ما تمكَّن منه الفيلسوف الذي خلَّد بكتابه الذي أسماه «كليلة ودِمنة».. «دبشليم» الملك الذي ارتدَّ بفضلِ هذا الكتاب إلى صواب الرأي والعدل والحكمة..
لقد روي الكتاب وكما ذكرنا, على ألسنة البهائم والسباع والطير, ويحكي في الحكمة والحلم والصبر والوقار والعقل والحياء والكرم والأنفة والنصيحة والصداقة..الخ.. أيضاً, يقع في خمسة عشر باباً كل بابٍ منها قائم بنفسه, وفي كلِّ باب مسألة والجواب عليها, وبطريقةٍ جعلت ظاهر الكتاب لهواً للخواص والعوام, وباطنهُ رياضة لعقول الخاصة من الأنام..
الكتاب: كليلة ودِمنة - تأليف: الفيلسوف الهندي «بيدبا». - ترجمة: ابن المقفع - دار كتابنا للنشر- لبنان- المتن- 2011