جديده الذي صدر قبل رحيله حمل عنوان «الأسلوب والأدب والقيمة» صدر الكتاب عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
في هذه العجالة نقف عند عنوان عريض حمل اسم النص والمحتوى وقد اخترناه لأن الناقد الراحل قال إن مجموعة من الحقائب التي تشكل صلب مذهبه النقدي أو عقيدته الأدبية يعرضها وفق التالي:
النص والمحتوى:
يقول يوسف سامي اليوسف متحدثاً عن أسس مذهبه النقدي ومعدداً مكوناته.
أولاً: إن للأدب من المحتويات ما للحياة المنداحة من محتويات لا تحصى ولا تعد.
ثانياً: إن قيمة النص الأدبي بأسرها يعتمد مستواها اعتماداً كبيراً وإن لم يكن كلياً على محتواه أو على ما يعرضه من مضمون يبتغي إيصاله إلى الناس، فالمحتوى العظيم يهيئ النص الأدبي لمرتبة عظيمة بينما لا ينال النص إلا قيمة منخفضة حين يكون محتواه عاجزاً عن البلوغ إلى سويداء الفؤاد.
ثالثاً: لا ريب عندي في أن النقد الأدبي هو علم القيمة أو الدراية باستصدار حكم القيمة الناضج الذي لا يقدر عليه إلاّ من كان ضليعاً في الآداب وخبيراً بأسرارها، ثم إن تحديد قيمة هذا النص أو ذاك هي الوظيفة العليا للناقد الأدبي المعني بأمر الأدب.
رابعاً: قلما ينال النص الأدبي أي قيمة جليلة بسبب شكله، مهما يكن مستحدثاً أو متقن الصنع، ولا ينال النص الرفعة إلا من عمق محتواه ونبل غايته ومرماه، وهذا يعني أن النزعة الشكلية التي أفرزها القرن العشرين كانت جهداً بغير مردود وربما جاز الزعم بأنها ما كانت إلا وبالاً على الأدب في العالم كله.
وعلى أي حال فإنه إذا أريد للنص الأدبي أن يكون مؤثراً على النفوس فلا بد له من عنصر مضموني محبوب أو جذاب وما لم يتوفر هذا العنصر الذي من شأنه أن يجذب المرء أن يهيمن عليه فلا وجود للأدب الأصلي بتاتاً، وربما جازلي أن أزعم بأنه ما من عنصر يملك أن يجذب ويهيمن ويؤثر على النفس المتلقية أكثر مما يفعل الألم البشري الصادق والناجي من كل تكلف أو تزوير.
ولئن كان الشكل جسد النص الأدبي أو هيئة انكشافه فإن المستوى هو روح النص وماهيته ومغزاه، أو ما يجعل منه شيئاً حياً وذا بال وما دام المحتوى مهماً إلى هذا الحد ولا سيما من جهة حكم القيمة فإن برهة الاستيعاب هي الشرط الذي يشترط ذلك الحكم أو يؤسسه ويحدد فحواه وقد لايتم الاستيعاب إلاّ بعد استنفار مضمرات النص أو بعد الكشف عن مستورداته التي قد لا ترى من السطح بل التي قد لاترى إلا بعد لأي، ومن شأن ذلك أن يعنى ما فحواه أن تحديد المحتوى يحتاج إلى موهبة الاستبار وموهبة النفاذ إلى جذور الكلام، وهذا فعل يحتاج إلى حضور لا يقوى عليه إلا اللبيب وحده .
بيد أن الاقتراب من المحتوى بل حتى من النص في مجمله هو فعل متين الصلة بالمعيار، والمعيار في الحق معضلة لا حل لها بتاتاً ولما كان المعيار مبدأً غير جامع ولا مانع أو قل غير عمومي أو كلي فقد يجنح الناقد إلى إلغائه أو إلى دحره صوب هامشٍ ثانوي، ولقد عني به النقد منذ أيام أرسطو الذي رأى في الرصانة أو الجدية أحسن معيار للحكم على الأدب أما هوراس فقال بالتماسك واللباقة ولكن لونجين قد بز هذين الاثنين حين أكد على أن المعيار هو قوة العاطفة وسمو الأسلوب.
ولقد وضع ابن طباطبا في معيار الشعر معيارين لتحديد القيمة وهما: النشوة والطرب والصدق المؤدي إلى اللذة، ففي رأيه أن القصيدة ينبغي أن تكون لها نشوة كنشوة الخمر، كما يجب أن تكون صادقة العاطفة كي تتلذذ النفس بنقاء محتوياتها الخاصة.
أما القاضي الجرجاني فقد بين في الوساطة أن المعيار هو إقبال النفس على النص ملهوفة أو مشتاقة، ولكنك إذا وجدت لفؤادك عنه نبوة ورأيت بينه وبينك فجوة فإنك في مواجهة نص رديء، وفي مذهبه أن ملاك الأمر هو ترك التكليف ورفض التعمل والاعتماد على الطبع المهذب المصقول الذي يعرف موقع اللفظ الرشيق من القلب ويميز بين المصنوع والمطبوع فيرفض الأول ويأخذ الثاني.
فالقاضي يرى أن التكلف والاصطناع هما العاملان اللذان يؤسسان الاتضاع في الأدب، كما أن ذلك الرجل الذواق الذي يملك أن يميز بين النفيس والخسيس قد تبنى مقولة للطرب بوصفها معياراً لنقد الشعر وثيق الصلة باللذة، وهي المقولة التي سلف لابن طباطبا أن تبناها قبل القاضي ببضع عشرات من السنين، وفضلاً عن هذا فإن ذلك الناقد الفذ، أعني القاضي جعل صحة الطبع ينبوعاً لكل أدب عظيم.
وخلاصة الأمر عنده أن الأدب يميز بقبول النفس ونفورها وينتقد بسكون القلب ونبوه.
وهذا يعني أن مقولة التأثير هي المعيار الحقيقي وأن النقد عنده ذاتي أو شعوري وليس ذهنياً بأي حال من الأحوال، إن المهم هو الشعور وموقفه من الأشياء.
وإذا ما انتقل المرء إلى العصور الحديثة ووصل إلى الرومانسيين وجد وردزورث وكولرج وهما يؤكدان على أن الخيال هو الصانع الأول للسخرية في أي شعر عظيم، كما قالا بأن خلع الغرابة على المألوف أو جعل المألوف غريباً هو أمر شديد الأهمية في إنتاج الأدب الجيد، أما إليوت فقال بالانتشار في الزمان والمكان، وقد عبر عن هذا الانتشار بمقولتي الكونية والديمومة وشدد الشكليون الروس على الجدة والمفاجأة أو على الدهشة وذهب ريد إلى أن الفن يكون عظيماً بمقدار ما يعبر عن القيم الفطرية العظمى في الحياة.
واستناداً إلى هذا كله قد يجوز لك أن تعرف الأدب العظيم بأنه الذي يكابد هماً متين الصلة بصفة سلبية من الصفات الدائمة أو للمشروع البشري.
قد لا يسئل البتة أن تكون ذا نفس حية وأصيلة دون أن تكون مغترباً في هذه الدنيا المثلوبة بألف ثلب وثلب وفي مذهبي أن الاغتراب هو المرارة التي تملأ الفم علقماً دوماً أو قل إنه لوعة الشعور بالنفي والإحباط والدحض الذي تتلقاه الذات عند عتبة الوجود.
وهو يعني أن الحياة مسممة ولا تستحق أن تعاش مع أنها قد يندرج في طياتها إمكان السعادة والإحساس بالروعة وذلك بسبب لقيمات الهناء التي يذوقها المرء بين الفينة والأخرى.
-الكتاب: الأسلوب والأدب والقيمة. - المؤلف: يوسف سامي اليوسف - الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب.