ضاقت بهم بيوت و احتضنتهم أرصفة دمشقية على اختلاف الأماكن و المحافظات التي وفدوا منها .. و كأنهم ركاب في محطة انتظار ضاقوا ذرعاً بانتظار قطار يحمل الآمال ليعود بهم إلى بيوتهم التي اشتاقوا لها ..
منذ فترة ليست بالقصيرة و أنا أراها .. اقتربت منها و الفضول يدفعني خطوة و التردد يعود بي إلى الوراء خطوات .. ما قصة تلك المرأة التي باتت تلفت نظري كلما مررت من ذاك الطريق ، مرة تجلس القرفصاء و تعد القهوة و الشاي على الرصيف و مرة أخرى تنهمك بغسل الفناجين و الأطباق و الطناجر كأي امرأة مسؤولة عن بيت و أسرة في مملكتها ، تحت ظل شجرة كبيرة تقف سيارة شحن صغيرة لا أدري ما نوعها و لكنها قد غطيت بشادر قماشي و اعتلتها فرشات اسفنجية و وسائد ، و في كبين القيادة كانت هناك فوضى تلائم صغر المكان تختلط به الطناجر مع الأغطية وبعض الأشياء التي تلازم أي مطبخ أو منزل من علب و ألبسة و أحذية ، كانت بين الفينة و الأخرى تفتح باب السيارة و تضع شيئاً داخلها أو تخرج آخراً ..
سلمت عليها فردت السلام و هي هاشة باشة و الابتسامة تكاد لا تفارق وجهها ، و تذرعت بسؤالها : هل تبيعين شيئاً ؟ فردت : لا .. و لكنني أسكن هنا ، في هذه السيارة التي ترينها ، و كشفت عن صندوق السيارة التي تغطي أرضيته الفرش والأغطية و كأنها غرفة نوم ، ، و بلجة المزج و التحدي لظروفها ، أشارت إلى ركن من الرصيف و كأنه بيتها العزيز الذي تعرف زائريها عليه ركناً ركناً ، قائلة : و هنا غرفة السفرة أما غرفة الجلوس فهي هناك !!
سألتها عن اسمها فردت .. أنا أم أحمد .. أم سمير .. أم عادل .. أم أي اسم من الأسماء .. سمني ما شئت .. أنا أم و زوجة لرجل مصاب بذاك المرض الخبيث ، و فوق الفقر و المرض حمدنا الله و تقبلنا مشيئته ، أما التشرد و النوم على قارعة الطريق فهذا ما لم يكن بالحسبان و لو بالكوابيس ، هجرنا بيتنا كغيرنا ممن يسكنون المناطق الساخنة بعد معاناة طويلة مع الخوف و الرعب من الاشتباكات و القذائف ، و من منطقة ( التقدم ) حزمنا أمتعتنا و بعض الأشياء الضرورية ، و حللنا ضيوفاً على هذا الرصيف بعد أن ضاقت بنا بيوت الأقارب و الأهل ، و على ما يبدو أنه في هذه الأيام الإنسان ثقيل و لا أحد يحتمل الآخر ، ثمانية أشهر و نحن نقيم هنا منذ أن نزحنا بفعل إرهاب العصابات المسلحة ، و هناك الكثير من الأسر باتت الأرصفة و الحدائق بيوتاً لهم ، و منهم أبنائي الشباب مع عائلاتهم يسكنون الحدائق لأنه لا قدرة لنا لدفع آجار منزل ، و كيف لنا ذلك و نحن نعيش من وراء البيع على البسطات ؟ فابني يعمل على عربة في باب الجابية .
الناس لبعضها و الله لم ينسنا ، تابعت الحديث تلك المرأة بالقول : أحيانا نصادف أناساً كرماء أفضل من الأهل الذين لم يتحملونا في أزمتنا ، فنحن في زمن الأقارب لا يعرفون بعضهم و كل واحد منهم يقول : ربي أسألك نفسي ، و مع ذلك الدنيا لاتخلو من أولاد الحلال الذين يجبرون خاطرنا و يحاولون مساعدتنا قدر استطاعتهم ، فالإقامة في صندوق سيارة ليس بالأمر السهل خاصة مع برد الشتاء و الآن ارتفاع درجات الحرارة ، أتينا إلى هذا الرصيف و الرب كان معنا ، فالجيران بالطابق الأرضي مشكورين فتحوا لنا الباب لنستعمل حديقة بيتهم و سمحوا لنا بالاستحمام عندهم و الجلوس بحديقتهم ، و فاعلو الخير في هذا الشارع لا يبخلون علينا مما أعطاهم الله من خيرات ، البعض يأتينا بالطعام و آخرون يساعدوننا بالمال جزاهم الله خيراً ..
يقولون : « إن خليت خربت » و هذا حال مجتمعنا متكافل اجتماعياً متلاحم إنسانياً ، أهل البلد يؤازرون بعضهم بعضاً فيما تيسر خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة .. لم تنس تلك المرأة أن تدعوني لتناول فنجان قهوة بعد الإفطار ، بقولها : نحن فقراء و لكننا نعرف كيف نقوم بالواجب و لو كنا على الرصيف ..