من الطبيعي أن تصدر هذه الكلمات عن «فارس» كرهَ كل تعصّبٍ ديني وسعى للتقريب بين الأديان, وإلى الحدِّ الذي جعله محبوباً من كلِّ الطوائف.. تماماً كما أحبَّ هو جميع البلاد العربية, وخصوصا «لبنان».. بلده الذي قال أنه أحبّه كما «يحبُّ العاشق امرأة بينه وبين قلبها رباطٌ لا يُفصم, وبين حالته الروحية وحالتها, هاوية لا تُجتاز».
لكن, وإذا كان هذا ال «فارس» قد أحبَّ بلاده بطريقةٍ أعلن بعدها عجزه عن فسخِ الارتباط ما بينه وبينها, إلا أنه أعلن أيضاً, وفي العديد من الخطب التي ألقاها في «نيويورك» بأن: «الوطني الحقيقي, هو من يرى بلدته في كلِّ قسمٍ من أرضِ الوطن, وكلّ سكان الوطن لديه أهل وجيران وخلان».
إنه الأديب والشاعر والمفكر والإعلامي والمترجم والخطابي «فليكس فارس» الذي تمكن وبعد امتلاك كل هذه الفنون, من إعلاءِ شأن الثقافة العربية وسواء في بلده لبنان, أو حتى في المهجر الذي دفعه إليه اضطهاد المحتل العثماني, وبعد أن ضاق هذا المحتل احتمالاً بوالده الذي كان كاتباً سعى للحرية والخلاص من هذا المحتل الظالم..
نعم, لقد اضطرَّ «فارس» الذي ولد في لبنان 1882 ولأبٍ حقوقي وأمٍ مثقفة ومن أصولٍ سويسرية- فرنسية.. اضطرَّ للرحيل مع أسرته التي أوَّل ماغادرت, إلى بلدة «المريجات» مسقط رأسه, وبعد عام واحد من دراسته في لبنان, ليعمل بعدها على تثقيف نفسه بنفسه واعتماداً على والديه وجدته, وهكذا إلى أن أجاد اللغة الفرنسية وبدأ بتنظيم الشعر وإلقائه على المنابر إضافة إلى اتجاهه للترجمة التي بدأ بإتقانها مُذ بلغ الرابعة عشرة من عمره..
هكذا كانت بداياته التي دعمها بدراسة اللغة والأدب وباللغتين العربية والفرنسية, وبثقةٍ وإرادةٍ وإصرارٍ على نقلِ ما اكتسبه وتعلمه إلى مجتمعه اللبناني.. هكذا كانت بداياته التي دعمها أيضاً, بتأليف الكتب والمسرحيات والروايات وكذلك دواوين الشعر..
بعد ذلك, بدأ ومن قريته «المريجات» بإرسال المقالات والقصائد إلى صحفٍ في لبنان والمهجر, لينتمي بعدها إلى جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تعمل سراً لتخلص من السلطان «عبد المجيد» والتي ما أكثر ما اعتلى منابرها مطالباً بالمساواة والإخاء والحرية..
كل هذا, لم يمنعه من السعي لإيجادِ عملٍ يدرُّ عليه ما يعينه في حياته ويكفيه, وبما دفعه للسفرِ إلى بعلبك للعمل في السكك الحديدية التي كانت تمدُّ الخطوط مابين حماة وحلب.
أيضاً, أصدر في «بيروت» صحيفة «لسان الاتحاد» وعمل في مجلة «العروس» و»المراقب» السوريتين, وإلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى, وتمكن من جعل صوته يصدح على المنابر, وبما جذب المعجبين إليه. أيضاً, بما دفعه لتأسيس رابطة فنية تجمع أبناء الوطن من مختلف الطوائف وتحارب التعصب الأعمى والأهم, تعزِز مكانة الآداب والفنون.
لا شكَّ أن حبه لوطنه, هو من جعله يسعى لكل هذا, بل وللسفر إلى الولايات المتحدة لأجل توحيد المهاجرين, ومن خلال الخطب العديدة التي ألقاها وأحيت فيهم حب الوطن والحنين إليه, وبما متَّن العلاقة ما بينه وبين أشهر أدباء وشعراء المهجر من لبنانيين خاطبهم:
«إن البلاد التي لا يتعذب أبناؤها من أجلها لا يستحقون أن تُدعى وطناً لهم.. للفردِ أن ينسى, بل عليه أن ينسى, أما الأمم فعليها أن تتذكر دائماً مصائبها العامة لتشدّد روابط وحدتها, ولتعرف كيف يجب عليها أن تتجه نحو مستقبلها.. لنحترس من أن نقول إن هذا الوطن هو وطن هذا الدين أو ذاك المعتقد, فإذا نحن ألقينا بشقائنا إلى هذه الأرض المغطاة برمادِ الرفات المتحدة, فإنما نحن مدنِّسوها, ولعلَّ هذه الأرض تعلم أكثر مما نعلم نحن, بأن خالقها هو الواحد الأحد, وبأنها غذَّت كل أبنائها على السواء من حشاشتها الواحدة»..
حتماً, لم تكن هذه الخطب وحدها, من أعلى شأن «فارس» في المهجر لطالما, استمر حتى بعد عودته إلى لبنان, في مراسلة الصحف الأميركية ومن ثمَّ الإفريقية والبرازيلية..
هذا هو «فليكس فارس» الذي كان وبالإضافة إلى إبداعه المتنوّر, خطيباً لاذعاً ومؤثراً ومحرِّضاً على أن يكون لكلِّ مواطنٍ وطن يقدسه ويستظلّ بترابه. أيضاً, أن يكون: «للأدب دولة الفلاسفة ملوكها والشعراء أمراؤها والفكر سلطانها الذي لا قيد لصولجانه ولا لون لرايته لطالما, هيكل الأدب مقدّس لا يدخله واشٍ أو نمّام ولا يستظلُّ بأغصان كوخهِ إلا أبناء النور».
هذا هو «فارس» الذي لم يردْ لأبناءِ وطنه إلا المحبة والإخاء, والذي لم يردْ لنفسه إلا أن يذهب إلى: «غدير ماء صافٍ, يسيل بهدوء وتحت شجرةٍ تتدلى أغصانها على الأرض.. هناك بعيداً عن متاعب الإنسانية».. «فارس» الذي أراد لنفسه هذا بهدف راحةٍ روحية ونفسية تبعده إلا عن ترتيل: «أجلس متفكراً بالإله الحق الذي يتخذ القلوب هيكلاً أعظم من هذه الهياكل الفانية.. متفكراً بالحقيقة التي وإن أتت على مهلٍ إلا أنها لابدَ آتية»..