على الطريق القروي الخالي إلا منه، كان أبو صالح، ذلك الرجل الذي يودع العقد الخامس من عمره، يزفر زفرة عميقة. وفي مثل هذه الظروف من ضغط المناخ عدا عن ثقل الروح والجسد، تُستنفر الذاكرة، وعبثاً يحاول المرء أن يقمعها عن تلك التداعيات الموجعة، فكيف إذا كانت مشاحنات أبو صالح مع زوجته طازجة.
قالت له: «إن شاء الله الجيل القادم أدرس وأتعلم وأصبح شخصية مرموقة في المجتمع ولا ألتقيك..!».
ضحك بمرارة.. قال لها: «مفكرة حالك بتقهريني؟!».
نظر إلى صورة والده المعلقة على الجدار وقال: «الله يرحمك يا والدي، لقد كنت ركني الدافئ وسندي القوي».
قاطعته قائلة: «رحمه الله، فقد كان يوصيك بي خيراً».
«أنت ضعيفة وتفهمين أنك بحاجة دائماً للحماية والوصاية لكنه كان يقصد أن أرتقي بك نحو الأفضل.. وأنت..!».
أشاح بوجهه عن الصورة وهو يهمّ بالخروج فبادرته زوجته بعصبية واضحة!
ماذا..؟! أكمل، قل كل ما عندك.
أجابها بألم: - اصمتي الآن.. اصمتي
تثاقلت خطواته أكثر، ضاق الألم ذرعاً بالقلب المتعب فراح يمد أذرعاً أخطبوطية على الجسد الكهل.. أخذ يهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال عله يطرد تلك الذكريات.
قال لنفسه ببقية من عزم: عليّ أن أعيد ترتيب حياتي من جديد، لم يفت الأوان بعد، ها قد أشرفت على عقدي السادس، ولعل أوراق العمر بدأت بالتساقط عن أغصانها التشرينية.. لكن الأمل ما زال يتربص عنيفاً في أعماقي.
أعتقد أن الأولاد يكونون قد قطعوا أشواطاً مهمة في بناء مستقبلهم.. صالح بعد عدة أشهر ينهي خدمة العلم. إبراهيم سيتخرج بعد سنتين من الجامعة، سلمى وأحمد مشوارهم طويل، لكن لا خوف عليهم، فهما متفوقان في دراستهما.
في اليوم التالي استيقظ فجراً كالمعتاد، شرب كأساً من الشاي على شرفة منزله وهو يتأمل صباح يوم جديد.. ثم بدأت رحلة عمله اليومي..
ذهب إلى الحقل، راح يتفقد أشجار الزيتون شجرة شجرة، يسوي الأرض تحتها ويتأملها بوعد جديد.
عندما عاد إلى بيته وجد موظف الكهرباء المسؤول عن جميع الضرائب في انتظاره.
قال له ممازحاً: من أول يوم بالشهر يا فهمان؟! ثم ناوله المبلغ الذي تضاعف عن الفاتورة السابقة، ابتلع غصته مع ريقه وقد تذكر كل إرشاداته لأولاده التي تتفادى توجيه اللوم لأحد.
في المطبخ وجد ثلاثة صحون من الزيت، أفرغها في واحد، سمع نفسه تقول له: «من علياء الهموم الكبيرة إلى هذه الهموم الصغيرة يا أبا صالح».
قال لها بأسى: تغيرت الأولويات وتغيرت أشكال النضال.
ذهب إلى سريره، غطى صمته وهمومه المتناسلة باللحاف، ومن النافذة المحاذية أخذ ينظر إلى الأفق، بدت زرقة عينيه وكأنهما تفتحان حديثاً ما مع السماء، مطر خفيف راح يهطل بسماحة إلى الأرض، بينما تسلل شعاع آخير من أشعة الشمس الغاربة، ليغمر الوجه الذي أخذ يشحب شيئاً فشيئاً.