وأغمضت عين مقاصدها لما يكتنفها من آمال وآلام. وإذا كانت رؤية أفلاطون جاءت منحازة ومناصرة إلى توظيف الإبداع على نحو يوازي إيقاع الحياة بعد مطالبتها الفن بمحاكاة الواقع، فإن شكل هذه المحاكاة اختط طرقاً متباينة ومختلفة، لم يحالف التوفيق جميعها،
كما لم يبلغ جميعها مصاف الإبداع الذي لا يقترن تحقيقه بالحدث الجاري على أرض الواقع وحسب أو بالفكرة الكامنة فيه، بل يمضي إلى حدود كيفية رصد هذا الحدث وكيفية تجسيد هذه الفكرة وخلاصتها المرجوة، لأن الفن في بلاغته العميقة إنتاج جمالي في المقام الأول كما قدمه وعبر عنه كل من «لالاند والدكتور الطيب بوعزة» والواقع الذي يجب على هذا الفن أن يقوم بمحاكاته ليس واحداً.
ثمة واقع ماثل في الحياة المتأزمة والمأزومة، وثمة واقع آخر حلمي ماثل في الحياة المشتهاة التي تحاول أن تُشيد بنيانها عنوة عما يدور ويجري من أزمات ومنغصات يطفح بها واقع الحياة الأولى الراهنة بالمكابدات المختلفة. وهذا لن يكون وفق أطروحات أيديولوجية جاهزة ضيقة، ولن يستقيم عبر تنظيرات فكرية مسبقة. إن جان بول سارتر حين أخضع رواياته ومسرحياته إلى الخاص المتمثل بمفاهيمه وآرائه الفلسفية مارس عليها قسراً فكرياً مسبقاً أضر إلى حد كبير في نواحيها الفنية والجمالية، الأمر الذي تنبه له وتخلى عنه ألبير كامو في روايته «الغريب»، فكثيراً ما تفسد الأفكار المباشرة السياق الفني عندما يتقولب بمقاسات أطرها على نحو تقريري ومحدد، وهو ما يسميه سترافنسكي بالاعتباط الفكري الذي يتعرض الفن من خلاله لصيغة استيلاء منظمة عبر أكوام من التفسيرات تسعى إلى اختزاله بمضمونه، كما تؤكد الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاج، باعتبار أن الإبداع في صيغته الفنية يبلغ شأواً أبعد وأعمق من ذلك يتحرر فيه من إسار الحدث الماثل بأزمته المباشرة متخففاً من آثاره إلى الحدث الآخر المتولد عنه كردة فعل عليه، استغلها غوستاف فلوبير وأحدث من خلالها ثغرة تتحايل عبرها بطلته مدام بوفاري على الاستحقاقات الاجتماعية. وفعل الشيء نفسه جنكيز ايتماتوف محدثاً من ردة الفعل ذاتها طريقاً سَهّل به هرب بطلته جميلة من العريس المفروض عليها الذي رفضت الزواج منه ومشاركته الحياة المستقبلية.
من خلال هذا التنقل بين الواقع الراهن بأزماته على الشخصيات وبين الواقع المنشود والمشتهى، يأخذ الإبداع النص إلى أفق آخر محرراً إياه من رتابة التسجيلية وفجاجتها، ليبلغ به فضاء فنياً يعيد بموجبه صياغة الحياة بشكل يتداخل في نسيجها الحلم مع نقائضه على نحوٍ غير مفتعل وغير ركيك، لأن الإبداع في النهاية من وظائفه تحدي الممارسات الخاطئة السائدة بالمستحيل الإيحائي الذي تفتح بوسائطه كوة للخلاص يتأتى منها ما هو مرجو، ولكن بصورة غير متوقعة تحقق الدهشة والمفاجأة المستحبة.
ولنا في هذا السياق أن نتذكر المهارة الإبداعية التي تحلّى بها زكريا تامر وهو يستعيد من الموت أبطالنا التاريخيين ليصنع منهم واقعاً مغايراً يدين به الواقع المعاش وهزائمه وانكسارات الإنسان فيه. وهذا لم يحدث من خلال الكلام الذي أطلقه على ألسنتهم، بقدر ما جاء في الكيفية وفي التقنية التي أنجز بها مراده القصصي والتعبيري، فكانت المفاجأة في حدوث غير الممكن بعد استدراجه إلى ساحة الممكن لتتولّد الدهشة في بث روح الفعل والحركة بتمثال يوسف العظمة، وليس بموقفه الرافض والمحتج على الهزيمة الحزيرانية التي رفضها واحتج عليها الجمهور العربي برمته. وكذلك الحال في قصة الذي أحرق السفن، حيث لم يشأ زكريا تامر في جعل مفاجأته القصصية أن تأتي من حرق طارق بن زياد للسفن لأن ذلك تمّ وانتهى أيام الفتوحات العربية الإسلامية، إنما جعلها تنشأ في محاكمته وإدانته على حرقها لتأخذ لبوساً حاضراً ومعاشاً تبرز فيه ملامح البيروقراطية العسكرية المعاصرة. وبذلك يصنع الإبداع قوامه وملامحه في الواقع الآخر الذي يختطه لنفسه ويُحْدثه في سيرورة السياق، ليردّ به على راهن الواقع المتأزم وليتحرر ويخرج من إسار تسجيل وقائعه واستنساخ أحداثه الجارية في حياة الشخصيات على اختلافها.
وإذا كانت غادة السمان قد بدت تسجيلية إلى حد ما في رصدها الاجتماعي المبكر الذي أقرت فيه بقدرية العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة، وذلك من خلال مجموعتها القصصية الأولى «عيناك قدري»، فإنها قدمت الواقع الآخر الإبداعي في إطار هذه العلاقة القدرية من خلال تلازم تحرر كل منهما معاً والذي انتقلت به في مجموعتها «رحيل المرافئ القديمة» من الجانب الاجتماعي ليأخذ أبعاداً إضافية في جانبه السياسي، طارحة عبره مفهوم الشرف من خلال المأساة الحزيرانية التي تتساءل بطلة قصتها في أعقابها: إذا كان فَقْد عذرية الأنوثة انتهاك للشرف، فماذا يمكن أن يكون احتلال الأرض وانتهاك سياجها الوطني غير انتهاك للشرف أيضاً؟
وهي عبر هذا الفحوى تعيد إلى الأذهان مأزق المثقف الذي يعيش في كنفه بسلوك يقوم على التناقض وعدم الانسجام بين فكره وممارساته التي استحدثت غادة السمان لرصدها وشجبها سياقاً قصصياً يرخي بظلاله على واقع جديد تبلغ في أبعاده التعبيرية إدانتها لمجريات الراهن ولواقعه المتأزم، وتبلغ في جوانبه الفنية البنية السردية المتسمة بالملامح الجمالية وبمرامي النص الإيحائية التي يصبح بموجبها الفن فناً، والتي لا تقتصر حدوده عند خطاب السرد، بل تشمل وتتعدى كل أنواع الفنون القولية والسمعية والبصرية.
ويبدو أن أجدادنا القدامى فطنوا لذلك على نحو مبكر، وخصوصاً في الشعر، باعتباره ديوانهم العتيد والعريق؛ لذلك أجمع الكثير منهم من ابن سينا إلى ابن رشد إلى ابن رشيق وابن بنّاء المراكشي... كلهم أجمعوا على أن لغة الشعر هي لغة المجاز. والقصيدة في سياق هذا التعبير ليست معنية في محاكاتها الشعرية باستنساخ الواقع المعاش والمأزوم، بل هي مكلفة بحدود الالتزام والوجوب في صياغة واقع فني إبداعي تردّ به على ذلك الواقع المأزوم، وهي معنية بذلك على نحو يفوق الرواية والقصة اللتين أشرنا إليهما قبل قليل، لأن الشعر أمامه كل الفرص السانحة له بالتحرر والتخفف من كل الأعباء، فلا هو في عهدة الراوي المشاهد أو المشارك، ولا هو أسير الوعي المتفاوت والمستوى المتباين لشخصيات أي منهما، كما الحال في العديد من الأعمال السردية وفي العديد من الفنون الأخرى على اختلافها.. فالأغنية التي هي الأقرب إلى فصيلة الشعر قامت بمفارقة الواقع، وفرضت لنفسها واقعاً إبداعياً مغايراً وخاصاً بجماليات أنشدتها وتوجهت بها إلى عامة الجمهور رغم تلون مشاربها وتباين وعيها فغنت فيروز ـ مثلاً ـ لهذه العامة غير المتجانسة: «يادارة دوري فينا.. ضلي دوري فينا.. تينسو أساميهم.. وننسى أسامينا..».
ولنا أن نتساءل في هذا السياق مَنْ يمكن أن ينسى اسمه مهما دار؟ وتمضي فيروز إلى ما هو أبعد وأجمل وهي تغني «وان سألونا وين كنتو.. وليش ما كبرتو انتو.. منقلن انسينا..» عبر هذه المفارقات الجميلة والرائعة تصوغ الأغنية/ القصيدة الحلم بعمر شبابي لا يعتريه التغيّر، فتكتب بالمستحيل عصيانها للزمن ملوّنة عدم تقهقرها بالنسيان الذي أقام معه الشاعر محمود درويش تناصاً لافتاً مسجّلاً عبره معجزة الشعب الفلسطيني ببقاء لا يطاله الفناء، الأمر الذي يثير الريبة والدهشة عند الجندي الإسرائيلي القاتل ويدفعه إلى سؤال الفلسطيني القتيل العائد من موته: ألم أقتلك؟ فيرد عليه الفلسطيني الشهيد: نعم قتلتني لكنني نسيت أن أموت!
هكذا يحاكي الفن الواقع بنص آخر يناقضه ويتخطى شروطه وقوانينه بصورة واقع آخر يصنعه الإبداع، ويرسم ملامحه بعدسة التخييل التي وصفها بودلير بالعدسة الذهبية. وعبّر العرب القدماء عن ذلك من قبل في توصيفهم للشعر قائلين: أجمل الشعر أكذبه؛ أي الذي يبلغ بتراكيبه المَشاهد المبتكرة والبيان غير المعهود. وهو ما دفع جان كوكتو المتحدث عن ضرورة الشعر إلى القول: أنا كذبة كبيرة. وذلك للتأكيد مرة جديدة على أن الإبداع الفني يصنع واقعه على نحوٍ مغاير يتجاوز فيه تسجيل الأحداث الجارية إلى التخاطب معها وإعادة تشكيلها وإنتاجها بسياق تعبيري إيحائي وجمالي. وإذا كان ثمة أطر ضيقة وتعليمات وشروط مسبقة تطالبه الامتثال لتعليماتها كتلك التي أطلقها ماركس في وصاياه المطالِبة بفن خال من الخرافة، ليكون جزءاً من الكفاح الاجتماعي، فإن الإبداع الفني تجاوز كل ذلك وظل ماضياً إلى صنع عالمه بأفق رحب، جاعلاً كل شيء في خدمة مبتغاه بدءاً من الأسطورة ووصولاً إلى حدود الغرائبية والفانتازيا ناثراً أعاجيبها في حكايات لياليه الألفية وفي ملاحمه ورواياته وقصائده وأغانيه.. فكانت الأوديسا وكان جلجامش ودون كيشوت ومعاركه ضد طواحين الهواء، وكان نسيان الموت والغياب الذي قام منه خالد بن الوليد وطارق بن زياد ويوسف العظمة ليستنكروا انكساراتنا في أرض صبغوها بانتصاراتهم !
إن الإبداع الفني يبتكر أساليبه وطرقه في صناعة الواقع وفي محاكاته ومخاطبة أحداثه. والمتلقي سواء كان قارئاً أو مشاهداً أو سامعاً يبقى مأخوذاً بالتعبير المميز والمغاير والمبتَكر. إنه ملّ واقعه وخَبِرَ فيه طعم المكابدات والمعاناة فظل معلقاً بذاك المرغوب والمشتهى الذي يصنعه الإبداع في واقعه الآخر ليدحض بجمالياته ذلك الواقع الطافح بالأزمات.