ورائحة المسك و البخور تعطر الفضاء.. و الدموع المنسكبة لا تجففها المقل.. فمن أين نبدأ وعن أي أم نكتب؟
- أنذكر أماً أصبحت عجوزاً وهي ترقب نهايات العمر بعد أن فنته عملاً وتضحية و تربية و صبراً على الأفراح و الأتراح؟
- أم نذكر أماً ودعت في ذاك الصباح ابناً غادر المنزل باكراً إلى عمله.. و انتظرته حتى المساء و لكنه لم يأت.. وما زالت إلى اليوم تعيش تلك اللحظة التي طبعت على وجنتيه قبلاتها الحارة فيما تتحسس قبلة ابنها الأخيرة على رأسها و جبينها لعلها سمعته حينها يهمس في داخله إنه الوداع الأخير.
- أم نذكر أماً ترملت في مقتبل العمر و لم يمض على زواجها أعوام عدة و حين أتى وليدها البكر لم تبصر عيناه ذاك الذي سيحمل اسمه ويتربى على سجاياه.
- أم نذكر أماً متعبة من العمل في الأرض و عندما جلست لترتاح قليلاً شعرت بأن قلبها اشتعل ناراً، فاستغفرت ربها داعية و طالبة من الله أن يكون ما شعرت به بفأل حسن.. فهي تخاف مع رؤية كل مشهد مؤلم أن يضمر وراءه غصة توجع الأعماق.
- أم نذكر أماً ضحت بما يفوق حدود التضحية حين وقفت وصمدت و تحدت وأعلنت بالفم الملآن أن الأرض هي الأم الحقيقية التي ربتنا و كبرتنا و علمتنا كيف نكون أوفياء لها.. لذلك استعذبت موت أبنائها.. المدرس و الضابط و المهندس.. و حينما استقبلتهم بالزغاريد.. ألقت بدموعها التحية على أجسادهم الطاهرة لم تلبث أن رفعت إشارة النصر بقامتها العالية.. فهي التي عرفت بحدسها الأقرب إلى قلبها أن الأرض العظيمة تحتاج للتضحيات الكبار.. و الوطن الغالي يحتاج إلى الدماء الزكية.
-أم نذكر أماً اعتادت أن تزور المقابر منذ اندلاع
شرارة النار في بلدنا الحبيب لأنها ضمت في ثراها ابنها الوحيد و ابن جارها و أختاً تقربها و طفلاً حملته في صغره.. تقرأ الفاتحة في الصباح و المساء، وتنثر الطيب علّ الهواء الذي يحمله يبعد رائحة الدم و البارود و شرور الشياطين حيث أوكارهم وأدغالهم المظلمة..
- أم نذكر أماً بل أمهات اختطفت الأوغاد من أحضانهن الدافئة فلذات أكبادهن وهم بأعمار الورود، مثلوا بأجسادهم الطرية و تاجروا بصورهم لتغيب حقيقة إجرامهم.. فما كان منهن إلا أن انتفضن وازددن صبراً واحتساباً و تحدياً لكل آلات القتل و الفتك و الإجرام.
- أم نشهد لأمهات تجاوزت أعمارهن السبعين و الثمانين و مازلن يشاهدن التلفاز و يترقبن أخباره العاجلة و يتابعن بشغف ما يحصل في سورية، يفندن هذا المشهد ويستفسرن عن ذلك.. متلهفات لمعرفة حقيقة ما يجري فهن اللواتي عشن عصر الكرامة بعد أن ذاقت بعضهن عصر الاقطاع و البيك و الفقر والويلات.. لذلك تراهن يزددن ابتهاجاً وسروراً في كل يوم تنكسر فيه شوكة الأعداء فهن اللواتي ربين أولادهن على حب الوطن و أرضعنهن حليب الكرامة..و هن اليوم لا يتوانين عن الدعاء والصلاة لأمن الوطن وسلامته أولاً و لعودة أبنائهن سالمين غانمين كل حسب موقعه.. و إن كانت أكثرهن قد فجعن بعزيز.
-فمن أي طينة أنت أيتها الأم السورية.. ومن أي عجينة جبلتك تلك الأرض التي ما زلت تزرعينها خيراً وقمحاً و أبناء شجعاناً و شهداء يروون ترابها بدمائهم النقية بعد أن سقيتها أنت جانب أخيك وزوجك الرجل بدموع العيون و عرق الجباه والسواعد..
فمن يعايد من في هذه الذكرى العظمية الأم أم الأرض أم أن ربيعنا الحقيقي المنتصر هو الذي يبارك و يعايد و يهنىء ويبصم بأزاهيره الملونة عبارة كل عام وسورية الشامخة بألف خير..