وقيمة الوعي بهذا الانتماء نفسه، وقيمة هذين معاً، الانتماء والوعي، بالمعنى الحق للوجود الإنساني، أي جوهر هذا الوجود ومن ثم غايته.
المواطنة انتماءٌ ووعيٌ وعملٌ، وإذا كانت في جذرها تعني حقوقًا وواجباتٍ، فإنها في دلالتها تعني حقيقة المعنى الإنساني في الانسان، فإذا كان الانتماء إلى وطن يعني الانتماء إلى أرض ومجتمع ولسان، يتسم كل منها، أي الأرض والمجتمع واللسان، بسمة تشير إلى وحدة جغرافية وبشرية ولغوية لها سماتها الخاصة بها والمميزة لها من الوحدات المماثلة لها، فإن المواطنة ليست ذلك وحده فحسب، على الرغم من أهميته وضرورته للوعي بحقيقة المواطنة، بل أيضًا ترجمة ذلك إلى مادة ناطقة بالحياة ودالة على الحياة بآن.
لقد عرّفت دائرة المعارف البريطانية المواطنة بأنها «علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة متضمنة مرتبة من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات وتسبغ عليه حقوقًا سياسية مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة»، وميزت «الدائرة» بين المواطنة والجنسية التي غالبًا ما تستخدم في إطار الترادف. ومهما يكن من أمر هذا التعريف، ومن سواه من التعريفات، ومهما يكن أيضًا من أمر أنّ المواطنة تعني النسبة إلى وطن، فإنّها ليست حقوقًا وواجبات فحسب، بل، أيضاً، تعبيرٌ عن تلك النسبة ممارسةً، أي تحولها من كونها دالة على هوية لتصبح دالة على هوى، ومن كونها مرجعًا لبطاقة شخصية لتصبح مرجعًا للشخصية التي تحمل هذه البطاقة، أي ما يجعل من المواطنة وجودًا حيويًا يعبّر عن نفسه في السلوك، مع الذات ومع الآخر، وعلى نحو يتجلى هذا الأخير معه بوصفه حدًا فاصلًا بين قيمتين في الوعي: المواطنة مادة، والمواطنة معنى. ويصح القول بآن: المواطنة مجازًا، والمواطنة حقيقة.
وإذا كان من الصواب أنّ التمييز بين القيمتين هو الفعل بمختلف أشكاله وتجلياته، فإنّ الأكثر صوابًا أنّ أيّ فعل لا ينطلق من التربية، بل لا تكون التربية مهاده الأول، يظلّ صورة فعلٍ، لا فعلًا بالواقع، وإذا كانت المواطنة ضرورة في أيّ عمل يستهدف بناء الإنسان، فإنّ التربية هي الحامل الأول لذلك البناء، ويمكن القول إنّ حامل الحامل في هذا البناء هو المناهج التربوية التي تعمل وزارة التربية منذ نحو ثلاث سنوات على تطوير بعضها، وتغيير بعضها الآخر، لتلبي طموحات التربويين، بل المواطن عامة، في إنجاز ذلك البناء. كما يمكن القول إنّ أيّ استجابة للمتطلبات المعنية بالمواطنة لا يمكن لها أن تكون استجابة بحقّ إنْ لم تتم من خلال بناء معايير للمناهج، بل من خلال توحيد صيغةٍ لهذا البناء، وإن لم تستكمل المحاور التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بها، أي العلوم الإنسانية، والفن والموسيقا والرياضة، والعلوم الأساسية، والتربية الوطنية والدينية، واللغات العالمية، ورياض الأطفال، وهي محاور لا بد من أن تشكّل في نتائجها رافعة مهمة لبناء معايير المناهج من جهة، وأساسًا نظريًا متينًا لتوحيد صيغة بناء هذه المعايير.
إنّ تمكين المناهج من أن تكون جذرًا معرفيًا في بناء المواطنة يعني تمكينًا للمعرفة نفسها، بل للوعي بمفهوم المواطنة، من مواجهة أيّ وعي عابر للوطنيّ ومنتج لنقيضه، ولاسيما الوعي القائل بإلغاء الهويات الوطنية، الذي تفتقت عنه الدراسات والأبحاث في السنوات الأخيرة من القرن الفائت، وهذه السنوات الأولى من القرن الحالي، والذي شاءت تلك الدراسات والأبحاث تعزيز حضوره في الوعي الجمعيّ، وحاولت أن تستبدل به مفهومات يمكن اختزالها بتعبير «ضدّ وطنيّ» من أجل تذويب تلك الهويات وصهرها في بوتقة المفهومات العابرة للشخصية الوطنية، والدالّة على كلّ شيء سوى الوطنيّ نفسه.
وبمنأى عن المناهج التربوية، وفي غيابها عن أيّ فعل يستهدف تلك المواجهة، فإنّ هذه الأخيرة، مهما أوتي لها من أسباب القوة، لا يمكنها التكيّف مع تدفّق تلك المحاولات من أجل تذويب الذات الوطنية إلا في حال واحدة، بل من خلال مرجع أوّل على نحو أدقّ، هو هذه المناهج التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار حقيقة مركزية، هي أنّ المنهاج الدراسيّ ليس مادة معرفية فحسب، بل أيضاً هو تكوين لهذه الذات، وتحصين لها، وقوة أكبر في تثبيت ما هو وطنيّ من أجل نفي ما هو عولميّ تتلاشى معه ومن خلاله تلك الذات التي لا يمكن في حال ضعفها، أو موتها، بقاء مرجعها وجذرها، الوطن، على قيد الحياة.