تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


النوم في الليالي العاصفة

إضاءات
الثلاثاء 2-10-2018
سعد القاسم

لمدرستي الابتدائية (ابراهيم هنانو) في نفسي الكثير من التقدير والمحبة والذكريات الجميلة الدافئة، بدءاً من اسمها الذي فتح معرفتي على أحد القادة الوطنيين

الذين نذروا حياتهم لحرية سورية ووحدتها، مروراً بالتفاصيل اليومية الوفيرة عن التلاميذ والأساتذة وحكاياتهم. وصولاً إلى الذكريات الحميمة عن مديرها الوقور الأستاذ مصباح الزعيم الذي أرسى فيها تقاليد الانضباط والنظافة، ومديرها التالي الأستاذ عدنان السوري الذي كان يقدم فقرة تمثيلية تلفزيونية شيقة، رغم توجهها التربوي، بمشاركة ولديه عالم - صديق الدراسة- وبسمة، والسيدة فدوى الريحاوي.‏

رغم أن المدرسة كانت - ولا تزال - تشغل منزلاً عربياً صغيراً وقديماً في شارع نوري باشا، انتَقلتْ إليه من منطقة عرنوس في خمسينات القرن الماضي، فإنها كانت تتميز بالأناقة والنظافة، اللتين تشملان البناء ومحتوياته ومظهر التلاميذ، وكثيراً ما سألني زملائي في ثانوية الثقفي، غير مصدقين، عما إذا كان ما سمعوه حقيقياً عن أن مقاعد مدرسة هنانو تبقى نظيفة ولامعة تحت طائلة العقاب لكل تلميذ يلوثها، ولو بنقطة حبر سالت من قلم (الستيلو) رغماً عنه. وكانوا محقين في استغرابهم بالقياس إلى مقاعد الدراسة في مدارسهم التي تتحول إلى دفاتر عامة يخط عليها الوافدون المتعاقبون مشاعرهم ورسومهم و(شخبراتهم) والـ (راشيتات) المعينة في المذاكرات والامتحانات.‏

في الصف الثاني حظينا بأستاذ استثنائي هو المرحوم الخطاط المبدع الشهير محمد قنوع، كان لهذا الفنان المعلم حضور خاص للغاية، قصير القامة جميل الوجه، يشبه إلى حد التوءمة شقيقه الفنان الكوميدي المحبوب هاشم قنوع، ويمتلك في الآن ذاته شخصية حازمة ومحببة ولطيفة، وحضوراً آسراً. في مطلع العام الدراسي اعتقلت سلطات الانفصال الأستاذ قنوع مع عدد من المدرسين الوحدويين (الناصريين على حد تعبير خصومهم)، ولم تكن إدارة المدرسة قادرة على توفير بدائل عنهم، ولكنها في الوقت ذاته لم توقف الدوام في المدرسة، فأمضينا أسبوعاً ممتعاً دون رقيب في الصف، وفي نهاية أسبوع الحرية، وفي أوج صخبنا وفوضانا سمعنا صوت الأستاذ قنوع عالياً يؤنبنا بين الجد والمداعبة وهو يدخل الصف حاملاً حقيبته الشهيرة، فكانت لحظات من البهجة الحقيقية الجماعية، رغم أن معظم التلاميذ ينتمون لعائلات تناصب الوحدويين الخصومة، كونها تنتمي إلى فئات تجارية وصناعية تضررت في زمن الوحدة.‏

كانت حقيبة الأستاذ قنوع الشهيرة تحتوي - كالعادة - على دفتري التفقد والعلامات، غير أنهما لم يكونا أهم ما فيها، فإلى جانبهما كانت أوراق وقصبات الخط، وكثيراً ما كنا نعود من الفرصة المحببة بين الدروس لنجد أن الأستاذ لم يغادر الصف مستغرقاً مع القصبات يبدع بها خطوطاً رشيقة ساحرة كانت كفيلة بأن تنقلنا في لحظة واحدة من حيوية الفرصة إلى سكون التأمل. كان الأستاذ يتقبل برحابة صدرٍ تجَمُّعِنا حول طاولته نرقب يده تنساب ببراعة فوق الورق. إلا أن أكثر الأوقات متعة كانت ترتبط بالشيء الأهم - بالنسبة لنا - في حقيبته الشهيرة، وهو كتاب صغير بغلاف سميك قرميدي اللون يحمل عنوان (مجلد حكايات المساء)، فهذا الكتاب الأثير على قلوبنا كان مكافأة الأستاذ لنا حين نبلي بلاء حسناً، ومنه كان يقرأ علينا بصوته الرخيم الدافئ المتلّون قصصاً (مترجمة على الأغلب) طالما أمتعتنا وداعبت مشاعرنا وأفكارنا، وأكثرها رسوخاً في ذاكرتي عن مُزارعٍ كان يتفقد عدداً من الباحثين عن عملٍ فأعجبه شاب ذو حضورٍ هادئ وبنية قوية، وحين أراد معرفة المزيد عنه كان الشاب يجيب كل مرة: (إني أنام نوماً‏

النوم في الليالي العاصفة‏

سعد القاسم |‏

إضاءات‏

عميقاً في الليالي العاصفة)!! ومع ذلك اتفق معه على العمل في مزرعته، وكانت الأيام التالية كفيلة بإشعار المزارع بصحة خياره، إلى أن كانت تلك الأمسية التي هبت فيها عاصفة هوجاء مفاجئة فاندفع المزارع نحو غرفة العامل ليجده مستغرقاً في نوم عميق لم تنفع معه كل محاولات الإيقاظ، ثم انطلق خارج البيت لينقذ ما يمكن إنقاذه وهو يشتم سوء اختياره، ويتوعد العامل - بينه وبين نفسه - بالطرد، ليفاجأ بأن المواشي والطيور قد أدخلت إلى زرائبها وحظائرها المغلقة بإحكام، وأن تلال الحبوب المحصودة قد حفظت في مستودعاتها، وأن كل ما يجب عمله لتفادي ضرر العاصفة قد أنجزه العامل النشيط قبل أن يخلد إلى نومه العميق.‏

لسنوات طويلة بقيت أبحث عن (المجلد) في مكتبات دمشق وبيروت، ولمّا عثرت عليه فرحاً بعد جهد كبير، تحولت بهجتي إلى إحباط عميق، فالحكايات جميعاً - ما سمعت وما لم أسمع - لم تكن تملك سحرها القديم، وكان عليّ أن أدرك بعد ذلك أن ذلك السحر لم يكن مبعثه النص المكتوب بقدر ما كان سره يكمن في أسلوب الأستاذ بقراءته..‏

وكل المحبة للزملاء الإعلاميين في مهرجانهم الوطني الثاني..‏

www.facebook.com/saad.alkassem

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية