تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عاليا الغراوي من دمشق إلى الهند... الحنين الشاعري لأجواء اللون الدمشقي

ثقافة
الأربعاء 8-5-2013
أديب مخزوم

جسدت الفنانة التشكيلية السورية عاليا الغراوي في معرضها الذي اقامته منذ سنوات، في المركز الثقافي الروسي في دمشق، أجواء الحلم الشاعري، وفتحت أمام عين المشاهد نوافذ على حكايات أسطورية،

مستشفة من دفق حياة الزمن الغابر،‏

بكل عناصره واشكاله ورؤاه الحميمية، الباقية بين القلب والذاكرة، ولوحاتها السابقة شكلت بالتالي مدخلاً لدراسة كل العناصر والاشياء التراثية والمعمارية التي عرفتها مدينة دمشق في مراحل تاريخية متعاقبة.‏

أرابيسك لوني‏

ومن هذا المنطلق الجمالي نستطيع أن نرى في لوحاتها السابقة التفاصيل مجتمعة، حيث اتجهت نحو مظهر توليف الأشكال بطريقة واقعية ورمزية أحياناً، رغم محافظتها في أحيان أخرى، على الجو الواقعي للشكل أو المشهد المرسوم، وعلى الطريقة الشرقية الأرابسكية، مستعيدة ينابيع الإشارات الزخرفية عبر تداعيات المرأة والحنين الشاعري المنبثق من رؤى مسرح أحلام ألف ليلة وليلة.‏

وفي جميع تلك اللوحات وصلت إلى جماليات ومناخات لونية، لا تتجاوز الأصل ولا تقلده، في سياق تجسيدها لتفاصيل وجماليات وأجواء معطيات فن أيام زمان، حيث اكتشفت عن طريق النماذج التراثية المحلية والشرقية (الفسيفساء، الموزاييك، الصدفيات، الزجاجيات والأواني المزخرفة، وكل مايقع في المدينة القديمة) إن اللوحة هي فسحة يمكن من خلالها إعادة الاعتبار إلى معطيات التراث المعماري والفولكلوري والشعبي، الذي يتعرض للزوال والاندثار.‏

لوحاتها الأحدث‏

في لوحاتها الأحدث التي انجزتها خلال إقامتها الحالية في مدينة جابور الهندية، وعرضتها في بلاد العجائب، ركزت على صياغة المساحات اللونية المتجاورة والمتداخلة (مستطيلات ومربعات) في خطوات الوصول الى التجريد الهندسي، ولقد أظهرت حالات اطلاق حمامة السلام في احدى لوحاتها على المساحة الهندسية التجريدية كإشارة انعتاق وسلام ومحبة موجهة منها لابناء وطنها سورية في أزمتها الوجودية المتفاقمة.‏

و تعيد سطوح لوحاتها الجديدة رغم تجريديتها، ورغم انها رسمتها في غربتها الاختيارية، أجواء اللون المحلي المتوهج، وبالتالي تتحول لوحتها التجريدية إلى سجل لذكريات طفولتها ونشأتها في مدينة دمشق، المنتشية دائماً بعطر الياسمين والجوري والنارنج والاضاليا والمنثور وكل الورود والزهور الشامية.‏

إنها مفردات وإشارات لونية تجريدية، من ثقافة الصورة الحية الباقية في الذاكرة عن المدينة القديمة، فالسطح الذي تقدمه في لوحاتها الجديدة يضاعف الإيهام بتحولها إلى نسيج لذكريات تحمل خصائص اللون الدمشقي، المترسخ في ذاكرتها ووجدانها، أي غاب الموضوع الدمشقي عن لوحاتها الجديدة وبقيت الوانه واشاراته المعبرة عنه.‏

ففي الوهلة الأولى تظهر لوحاتها وكأنها تجريد هندسي ولوني،غير أن الإمعان أكثر في التأمل والملاحظة، يفتح النص التحليلي على الكثير من التأويل والاجتهاد اللامحدود، فاللوحة التجريدية أو القريبة من التجريد، والتي برزت في معرضها الأخير، الذي أقامته في الهند، تتولد من خلال الحركة التلقائية والعفوية اللونية المتدفقة والمستعادة من معطيات الذاكرة، التي غذتها تأملاتها ومشاهداتها اليومية في مدينة الياسمين والاحلام والتخيلات.‏

وبقدر ما يحضر التجريد اللوني الهندسي والإنفعالي في لوحاتها الجديدة، بقدر ما تتراجع اللوحة الواقعية والتسجيلية، التي فاتها ما حققته الإنقلابات الفنية الحديثة، ويطغى المناخ اللوني المحلي على التكاوين التشكيلية المشحونة بالمشاعر الذاتية، حيث تتبدى العفوية في الخطوط والدلالات ذات الأعماق الإنسانية، وتتداخل إيقاعات الألوان، المتفاوتة احيانا والمتقاربة أحيانا اخرى، لتبرز الفضاء اللوني بصياغة فنية بعيدة كل البعد عن التزيين، وعن الحس اللوني البارد، رغم اقترابها كما أشرنا من الأشكال والكتل والتكاوين التي تصوغها على هيئة الهندسة اللونية العفوية أو المتحررة، فالتقطيع الذي تجريه على اللوحة والذي يأتي في الغالب أفقياً وعمودياً وبنوع من الخطوط الحرة، يجعل المربعات والمستطيلات واشارات الاشكال أقرب إلى الهندسة العفوية بشكل عام.‏

صب اللون السائل‏

وإذا كنا أشرنا إلى تحول الشكل داخل اللوحة (من الواقعية الى التجريد) فإن تعاملها مع تقنيات اللون، تتجه هي الآخرى إلى نوع من التغيير،كونها تنتقل إلى التعامل مع خامات وسطوح ومواد لونية جديدة وغير متوفرة في سورية.‏

هذا الكسر، وهذا الهدم، لسكونية الصورة الواقعية الاتباعية، يحرك الايقاعت اللونية في فضاء اللوحة، ويؤدي بالتالي إلى ترجمة الانفعالات الداخلية، بحيث تتحول اللوحة إلى حالة جمالية أخرى، بعيدة عن الدلالات الأدبية المقروءة، وتظهرالحركات العفوية كإيقاعات لونية سائلة ومتشابكة ومتداخلة مع بعضها البعض.‏

ففي مجموعة من لوحاتها التجريدية الجديدة، تصب اللون السائل والمسكوب على سطح اللوحة على طريقة الفن الانفعالي الحركي، فيستخدم المادة بخامتها اللونية الصريحة، التي تضفي ذلك الجو الإيقاعي في فراغ السطح التصوير اللوحة. وهذه المجموعة تتألف عبر إيقاعات لونية نافرة تحمل دلالات أو إشارات إنفعالية وجمالية مفتوحة على آفاق ثقافة وفنون العصر.‏

وتتفاوت المساحات بين التجريد وبين مشاعرها، من لوحة إلى أخرى، حتى أنها في بعض لوحاتها،التي ارسلتها لي من الهند، مكان اقامتها الحالية، وصلت الى حدود التجريد اللوني، ومع كل ما رأيناه من حالات تفكيك وتذويب للعناصر والأشكال الواقعية، فإنها تبقى قبل أي شيء آخر تعتمد على ذاكرة لونية محلية، كما أن الاتجاه التقني يذهب أحياناً نحو قوة حضور السطوح الملونة وإمكاناتها في تحريك سطح اللوحة، لاجتذاب العين إلى حقول بصرية تتقاطع عندها المساحات التجريدية الملونة.‏

هكذا تتخطى عناصرالموضوع الواقعي، و تظهر المساحات والحركات واللمسات اللونية المختلفة حتى تقارب حدود الغياب في بعض الأحيان، غياب ملامح وتفاصيل الاشكال الواقعية، التي جسدتها في لوحات معرضها الدمشقي، بحيث تظهر مجمل اللوحات في سياق منطلق تجريدي مستمد من إيحاءات الواقع الدمشقي المخزون في الذاكرة، بمعنى أن إشارات الشكل تتحول إلى خطوط وألوان أو إلى مجرد مساحات لونية لها قيمتها الجمالية الخاصة.‏

وبعض لوحاتها الجديدة لا تبتعد كثيراً عن أجواء التفاعل مع معطيات الواقع المأساوي الموجود في عالم اليوم اللاانساني. وبالتالي فهي بالرغم من همومها التشكيلية والتقنية، فإنها في بعض لوحاتها تحاول التعبيرعن حالات تجاوز اللحظات العصيبة. كما أن الفراغات اللونية الواسعة الموجودة في بعض لوحاته تجسد وبشكل غير تقريري او مباشر، خواء الأمكنة المصطرعة بالعنف والمغمورة بالأحزان والأجواء الشاحبة. فالتعبيرية الإنسانية المأساوية تطل في لوحاتها الجديدة بشكل خفي غير علني، وهذا ما نجده وراء رسم الحمامة المنطلقة برشاقة وحيوية رغم رزانة المساهات الهندسية وايحاءاتها السكونية.‏

فالجانب التشكيلي الجمالي يمكن قراءته في حركة اللون العفوي المعبر عن الحركة الداخلية الشعورية، حركة العواطف والانفعالات، التي من خلالها نستطيع اختراق المظهر السطحي للأشياء، كي يتجلى لنا التركيب الفني الذاتي. وبعبارة أخرى الحركة اللونية التلقائية هي ضرورة داخلية –على حد قول نيقولا دي ستايل- تعطي أهمية قصوى للإحساس باللون كقوة خفية في بناء وتنظيم المساحات واللمسات والضربات والحركات اللونية.‏

facebook.com/adib.makhzoum‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية