ميلان كونديرا فارس يقدس النبالة, لذلك فهو يعجب بالفارس ألونزو كيخادا, الذي يمزق وهم الفروسية في عصره, وهو يجول على حصان أعجف, مع خادم هزيل اسمه سانشو.
وفيما يعري أولونزو النبالة الزائفة, فإنه في الوقت نفسه, يصبح النموذج الذي افتتح فيه سرفانتس عصر الرواية بامتياز, وذلك بتحويل التراجيديا المقيتة إلى كوميديا, تفضح الأسس والآليات الاجتماعية والسياسية, دون ذرف الدموع عليها.
يتنطح كيخادا لطرح أسئلة حول الحقيقة والوجود والموت, ويجاريه كونديرا في هذه الأسئلة في رواياته, ويطرح مشكلة ضياع هوية الإنسان المعاصر, ولكنه هنا, في دراسته (الستارة) يقرأ في الكوميديا الروائية, ويتساءل: (من الروائي? ما الرواية?) مظهراً آراءه العاصفة في حرية الكتابة, التي تدفع الروائي إلى خلق عوالم لم ترها عين من قبل.
مع سرفانتس ورابيله, وجد الفن الملحمي الجديد المسمى (رواية), لأنهما استطاعا تمثيل القيم الروائية العظيمة الأولى, وهذه القيم الجمالية الخاصة, دفعت بالرواية أن تتبدى كتاريخ.
وبعد نصف قرن من سرفانتس, يكتب فيدلينغ روايته (توم جونز) ويرفض تعريفها (قصة أو رواية), ويدعوها (الاقليم الجديد).
وفي هذا الأقليم, يقدم فيلدينغ غذاء مقترحاً للقارىء, هو (الطبيعة الإنسانية), أي الارتفاع بالرواية إلى مرتبة التفكير بالإنسان بوصفه إنساناً.
يمتلك الروائي -بنظر كونديرا- الحرية الكاملة إزاء الشكل الروائي وإزاء الموضوعات عظيمة كانت أم تافهة, فاليومي, ليس فقط هو (المسئم والتافه والمتكرر والوضيع, بل هو أيضاً جمال).
وهذا الجمال لا يكون سوى نتيجة لاكتشاف سلطة التفاهة الفسيحة والغامضة, التي لن تفلح سوى الرواية باكتشافها.
ينحو كونديرا إلى تسمية كافكا وموزيل وبروخ وغومبروفيتش بكوكبة الروائيين العظماء في أوروبا الوسطى, ولكن, لماذا هذه التسمية, رغم أنهم لا يشكلون مدرسة أو حركة?
يقول كونديرا إنهم كانوا جميعاً شعراء الرواية, مع إدراكهم أن الرواية شعر عظيم مناوىء للغنائية, إنها النثر العظيم, الذي صنعه أناس مشغوفون بالشكل وحداثته, ومعادون لتحول الرواية إلى دين شخصي.
لقد اجتاز كافكا (حدود عدم مشابهة الواقع, بقي بلا شرطة وبلا جمرك مفتوحاً إلى الأبد) وكانت هذه لحظة عظيمة في تاريخ الرواية, ولذلك يمكن أن يدعى كافكا روائياً, لأن الروائي هو الذي يخترق حدود الرواية التي سبقته, وهو الرافض لتقليدية زمن سابق, وهو المناوىء لخدمة السلطة, مهما بلغ نبلها.
جاء رامبو, وغير وجه الحداثة, التي لم تعد سوى حداثة مضادة للحديث, أي انقلاب على الحداثة السابقة, وتمرد على تقليدية, كانت فيما مضى تمرداً عنيفاً.
شاع خطأ, يقول إن محترفي الرواية لا يمكنهم إلا أن يستعيروا الأفكار من محترفي الفكر, ويرفض كونديرا هذا الطرح, لأن الانعطاف الذي وجه الرواية نحو التحليل الوجودي للشرط الإنساني, حدث قبل أن تستحوذ الوجودية على أوروبا بعشرين أو بثلاثين عاماً, ولم تكن الفلسفة هي الملهم لهذا التحول,بل منطق الرواية ذاته هو الذي فرضه.
والدليل على ذلك أن كافكا مات قبل أن يتاح له معرفة مؤلفي وبرامج الوجودية والسريالية, وقد سبقت رواياته الميل الجمالي للوجودين والسرياليين معاً.
تقول السريالية إن فن الرواية مضاد للشعرية ومنغلق على كل ما تشكله المخيلة الحرة, وفي الحقيقة فإن هذا التجني لم يجد مبرره الواقعي.
فقد جاءت رواية ماركيز (مئة عام من العزلة) منتمية إلى المخيلة الحرة, وهي -كما يقول كونديرا- واحدة من اعظم النتاجات الأدبية الشعرية, كل جملة فيها تفاجىء على نحو مدهش, إنها رد مؤلم على احتقار الرواية الذي أعلنه بيان السريالية.
ويصب كونديرا مديحه على مئة عام من العزلة: (إنها مذابة تماماً في أمواج السرد السكري, لم أكن أعرف أي مثل آخر عن أسلوب كهذا, كأن الرواية عادت قروناً إلى الوراء نحو حكواتي لا يصف شيئاً, ولا يفتأ يحكي, لكنه يحكي بحرية الفنتازيا التي لم تعرف من قبل قط).
الروائي هو الذي يدخل عوالم مجنونة, ويجعل من روايته كرنفالاً للحقائق الفردية, وهو ليس سرفانتس فقط, بل كارلوس فوينتس وغارسيا ماركيز وكونتر غراس ورابليه وغومبروفيتش, وكل الشغوفين بخلع الراوي عن العرش.
كونديرا لا يترك الأمور بخير, ولا يجعلها تسير كما هي, فهو يخربها, ويعيد تخريبها من جديد, ولكنه يرى بعيداً, ويحفر أعمق ما يجب, فينكشف لنا خطره, ومن ثم سحره, ولكن لا تخافوا, فنحن كعرب, نمتلك مناعة مضادة لأي تخريب أو تغيير.
**
الكتاب: الستارة
الكاتب: ميلان كونديرا
ترجمة: معن عاقل
صادر عن دار ورد - دمشق 2006