تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الدور الوظيفي لتركيا.. متى وكيف رُسِمَ؟

صفحة أولى
الثلاثاء 19-11-2013
د.عبد الحميد سلوم

سأتناول هذا الموضوع من زاوية المنهج التاريخي للتحليل لنفهم متى وكيف رُسِم الدور الوظيفي لتركيا التي كانت دوماً على علاقات سيئة مع محيطها الإقليمي.. فأوروبا عانت الأمرّين من العثماني، وكذلك عانى الروسي...

ولا تنسى أوروبا تاريخهم المأساوي وحصارهم لـفيينا مما دفع أوروبا للاتحاد ضدهم وطرْدهم بقوة عام 1638 م..وهم من ساهموا بشكل كبير بتكوين صورة سيئة وعدائية لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين.. وكان جلّ همّهم احتلال البلدان وجمع الخِراج، وغيرتهم على الإسلام لم تكن إلا كما غيرة أمريكا اليوم على العرب.. وإن كانوا قد برّروا توسيع دولتهم العثمانية، وقبلها السلجوقية، باسم الإسلام فهذا لم يكن إلا لكسب عواطف المسلمين والتلاعب بمشاعرهم الدينية، كما تعوّدوا دوماً، وكما يفعل أردوغان وجماعته اليوم...فالسلجوقي والعثماني، سواء في ظل الخلافة العباسية في بغداد أم القاهرة، قاتلوا وحاربوا المسلمين (ومن بينهم المماليك) وغير المسلمين، لتوسيع دولهم القومية العرقية الأصل، ليس إلا.. وهم لم يُدخِلوا في الإسلام إلا القليل من أهل البلقان، ولكنهم أدخلوا الكثير من التركمان ونشروهم في البلقان، كما فعلوا مع البلدان العربية ليسودوا الآخرين.. ولم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا الاسم، أو ليقرؤوا القرآن باللغة العربية التي سعوا جاهدين لذبحها من الوريد إلى الوريد واستبدالها بالتركية، كما فعلوا مع عرب الإسكندرون.. ولولا أن لغة القرآن الكريم كانت بالعربية لتمكن العثمانيون من قتلها إعداما «بالخازوق» وجعلوا من قواميسها «باربكيو» وأضحتْ من التاريخ كما لغة الآراميين والآشوريين والفراعنة القدماء وغيرها،ولحقت بالعرب البائدة من أهل عاد وثمود..‏‏

وبعد استيلاء محمد الثاني «الفاتح» على القسطنطينية في 1453م، بعدها بأقل من عقدين من الزمن زحف ليستولي على أراضي العرب المسلمين في بلاد الشام والعراق وجزيرة العرب وشمال أفريقيا بعد أن هزم المماليك (وهم مسلمون) قرب حلب وفرضَ سلطته وسطوته العثمانية بالقوة والقتل والعنف، وأتبَعَهم الآستانة بالقوة، بعد أن كانوا يتبعون القاهرة.. ولكن يا ليت العرب يتعلمون!!..‏‏

العثمانيون والأوروبيون، مدفوعين بأطماعهم الاستعمارية، عادوا ليخوضوا حربا جديدة في بدايات القرن العشرين عُرفت بالحرب العالمية الأولى..العرب وقفوا ضد العثمانيين لأنهم عانوا منهم الويلات والتهميش والعنصرية.. إلا أن الأوروبيين خدعوا العرب بعد نهاية الحرب.. ويا ليت العرب يتعلمون، بل منهم من مازال يحن للمستعمر العثماني ويثق بالمستعمر الغربي الماكر!!.‏‏

الحرب على العثماني لم تكن حرباً على الإسلام، والعرب لم يثوروا ضد الإسلام بل ضد المحتل العثماني.. وسقوط الآستانة لم يكن سقوطاً (للخلافة) وإنما للإمبراطورية العثمانية... والموقف من العثمانيين لخّصه رئيس وزراء اليونان في حينه «الفثيريوس فينيزيليوس» بقوله: نحن لا نشن الحرب ضد الإسلام ولكن ضد سلطنة عثمانية فاسدة ومخزية ودموية وعفا عليها الزمن‏‏

دخل الأوروبيون (دول الوفاق) الآستانة في نهاية الحرب العالمية الأولى بعد أن استسلمت لكل شروط الهدنة، وفرض عليها المنتصرون كل شروطهم في اتفاقية « سيفر» عام 1920 وكانت تركيا في طريقها للتفتيت إلى دولة كردية كاملة السيادة، وإعادة أرمينيا الغربية ( ويسميها الأتراك شرق الأناضول) إلى أمها الأصل أرمينيا الحالية (الشرقية)، وإعادة « تراقيا الشرقية» إلى اليونان.. وكلّ ذلك كان أسهل عليهم من عبور بحر مرمرة الذي دخلوا عبره إلى الآستانة... ولم يكن أمامهم أي عائق لإعادة القسطنطينية لليونان.. ولكن البريطاني سرعان ما خبط بيده على الطاولة مُحَذّرا من خطورة تفكيك تركيا، واستجاب الفرنسي حالاً.. وكانوا في غاية الحرص لعدم تشريح جثة عدوهم المهزوم وعدّلوا اتفاقية سيفر باتفاقية لوزان عام 1923 التي حافظت على الكيان الحالي لتركيا وضمنها كل الأراضي السورية التي ألحقوها بتركيا في ( سايكس بيكو) وتصل حتى غازي عنتاب وبموازاتها على طول الحدود التركية المحاذية، ثم أضافوا لها لواء اسكندرون عام 1939 لكسب تركيا، عدوهم السابق، إلى جانبهم في الحرب العالمية الثانية، وكانت حدود سورية تصل حتى سفوح جبال طوروس..‏‏

والسؤال: لماذا فعلت بريطانيا وفرنسا ذلك؟؟. طبعا الجواب جاء على ألسنتهم أنفسهم في وقتها، فهُم تراجعوا عن تفتيت تركيا وتهشيمها كي تبقى سداً منيعاً أمام روسيا ومنعها من التمدد والسيطرة على آسيا الصغرى وهضبة الأناضول والتحكّم بالتالي بمضيقي البوسفور والدردنيل الاستراتيجيين والوصول للمياه الدافئة!!...‏‏

إذا دور تركيا الوظيفي تحدّد منذ الحرب العالمية الأولى..كخادم متقدم لمصالح الغرب في محيطها الإقليمي، وقبولها بهذا الدور هو ما ضمن كيانها الحالي حتى اليوم.. فالغرب الذي يكره الأتراك هو ذاته من يخشى الروس.. وإن كانوا تحالفوا مع الروس ضد الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية والألمانية (دول المحور) في الحرب العالمية الأولى، فقد سبق أن تحالفوا مع العثمانيين ضد الروس في حرب القرم 1853-1855 م بهدف تحجيم الروسي...‏‏

تركيا قامت بدورها على أكمل وجه كخادم لمشاريع الغرب بعد الحرب العالمية الأولى ونفّذت كل ما طُلِب منها. وبعد الحرب العالمية الثانية (زمن الحرب الباردة) تعزز هذا الدور وتعمّق، وضمّوها إلى الحلف الأطلسي ورفضوها في الاتحاد الأوروبي، لأنهم يحتاجونها فقط (كوجه قباحة ) ورأس حربة للغرب: سابقا في وجه الإتحاد السوفييتي، حيث أقاموا على أراضيها القواعد الأطلسية ومحطات التجسس والمراقبة ونشر الصواريخ، ولاحقاً في وجه روسيا وإيران، واليوم سورية!!.. وإن كل من يراهن أن تركيا يمكنها أن تخالف هذا الدور الوظيفي المرسوم لها هو واهم، لأنه في هذه الحالة لن تكون هناك تركيا الحالية وسوف يستحضرون اتفاقية سيفر مجددا وتعود تركيا مقتصرة على آسيا الصغرى أو هضبة الأناضول كما كانت في بداية احتلال السلاجقة لهذه المناطق وقبل أن يتوسعوا ويتمددوا أكثر!!. ولذا لا يراهِنَنّ أحد أيضا أن تركيا يمكنها أن تُغضِب إسرائيل مهما حصل بينهما من سوء تفاهم أحيانا، فهو يبقى سوء تفاهم بين عاشقين سرعان ما يعودا ليضُمّا بعضهما، وهذا ما حصل حينما زار الرئيس أوباما (إسرائيل) في آذار الماضي حيث تدخّل بين العاشقين وعاد الغرام كما كان..وأردوغان من أكثر الساسة الأتراك التزاما وتنفيذا للأجندات الأطلسية وأخطرهم لأنه يختبئ تحت العباءة الإسلامية ويطمح بعودة الهيمنة العثمانية من تحت هذه العباءة.. وربما حين تحدّث أحمد داوود أوغلو في أطروحته ( العمق الإستراتيجي) عمّا أسماه (خيار الصفر) لم يكن قد تمرّس بالسياسة بعد وكان يتحدّث كأكاديمي ولكنه أدرك لاحقا كسياسي أنه ليس من يقرر السياسات الإستراتيجية لتركيا وإنما هذه يقررها الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، ودوره هو التنفيذ كما دور العديدين في المنطقة..فهناك مايسترو هو من يحدد كل الأدوار، تماما كما يحدد مدرب فريق كرة القدم دور اللاعبين قبل المباراة..‏‏

هذا الدور الوظيفي المرسوم لتركيا ليس بخاف على كل جيرانها، لا سيما الروسي والإيراني، ولذا فإن نجحتْ بالتمدد جنوبا فهذا يعني أنها ستتمدد لاحقا، شمالا إلى آسيا الوسطى (حيث معظم الأصول من قبائل تركمانية) مما يشكل خطرا على روسيا في شمال القوقاز، وعلى الصين إذ توجد حركة تطالب باستقلال ما تُسمّيه (تركستان الشرقية ) وهو ما تعتبره الصين إقليم شينجيانغ في شمال غرب البلاد..وبطبيعة الحال ستشكل أيضا خطرا على إيران بحكم تحالفها مع الغرب ومع اسرائيل.. وإن كان التاريخ يعيد نفسه في أحايين عديدة، إلا أنهم لن يسمحوا بإنتاج عثماني جديد من خنادق ومخابئ وأنفاق المسلحين العابرين من تركيا.. وإن كان القيصر نيقولا الأول قد رفض وساطة نابليون الثالث لوقف الحرب مع العثماني أثناء حرب القرم، قائلا:» أشعر أن يد السلطان على خدّي «.. فإن (قيصر) روسيا الجديد وبضربة كاراتيه واحدة يُشَوّه كل خدود أحفاد السلاطين... وإن كان أردوغان يحلم بالسير على طريق السلطان سليم والسيطرة على بلاد الشام ثانية من ثغور حلب، فالأسهل عليه أولا إحياء فَرَس السلطان محمد الثاني «الفاتح» البيضاء التي دخل على ظهرها مدينة القسطنطينية، إلا إن كان يعتقد أنها ما زالتْ حيّة وتصهل من فوق هضبة الأناضول.. فأردوغان المتعصّب جدا لقوميته ويسعى بكل ما يملك لإحياء الطورانية التركية (الرابطة القومية) ويعقد المؤتمرات لتركمان سورية ويحرضهم،ويُحْيي فيهم العصبية التركمانية ويعتبرهم رعايا أتراكاً،حسب وصفه، حتى لو كانوا في سورية، لا يمكن وصفه إلا بالحاقد على العرب الذين ثاروا على أجداده قبل ما يقرب من قرن، ويعتقد أن الزمن قد حان اليوم كي يستعيد درب الدّم الذي بدأه السلطان سليم في العام 1516 بمجازره المعروفة واختتمه السفّاح جمال باشا بإعدامه لخيرة أبناء العرب في سورية ولبنان في العام 1916!! ولكن يا ليت العرب يتعلمون ويتمسكون برابطهم القومي، كما يفعل أردوغان، وبدل أن يلحقوا به ويصبّوا الزيت على النار السورية فعليهم أن يدركوا أن النار خطيرة جدا عندما تكون قريبة من محطات البنزين ومنابعه، وهم من يكتبون في كل محطة وقود وفي كل منبع نفط (ممنوع التدخين).. والنار السورية إن استعرتْ أكثر كما يسعى البعض، فإن لظاها سيشعل كل آسيا العربية والتركية.. فمتى سيستيقظ الضمير العربي الخليجي ليصرخ: أوقفوا الدُخَان في سورية، على الأقل حتى لا تصل نيرانه إلى محطات وقودنا ومنابع نفطنا؟!.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية