والتي خوّلتها التربّع على كرسيّ الزعامة ، ليست هي العامل الوحيد والأوحد الكفيل باحتفاظها بهذا المركز مع أنّ العامل الاقتصادي منها بشكلٍ خاص ، بدأ يتعرض للاهتزاز أيضاً ، بل هناك عوامل أخرى كثيرة لها أثرٌ كبيرٌ وفاعل لا يُستهان به إلى جانب العامل السابق ، وهو العامل القيمي الأخلاقي المُنبثق من الفكر الحضاريّ والذي يُعَدُّ من أهم عوامل ازدهار الحضارات وبقائها و ديمومتها ، وإن التمسك بقيم « العدل والانحياز لجانب الحق ، هو المظهر الأكثر أهمية من مظاهر العامل القيمي الأخلاقيّ المقصود ، فعندما يطغى الجانب المصلحيّ المؤقت المرتكز على قِصَر النظر ، والمدعوم بالشعور المليء بالغطرسة ، والمصحوب بعقدة التفوّق العنصريّ الذي يُنتج الظلم والانحياز الأعمى ، وغض النظر عن البحث والاستقصاء في معرفة الحق ، سوف يؤدي ذلك بشكلٍ حتمي إلى الانحراف عن مسار القوة المعنوية التي تُمثّل الرصيد الحقيقي للصعود الحضاري والمزوّد الفعلي لطاقة العقل الجمعيّ نحو التقدم والتطور .
إذاً ، نعود للتأكيد بأنَّ هذا العامل الذي يُسّرع من انهيار زعامة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم ، يقوم على السياسة المفروضة على الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالانحياز الدائم والأعمى لإسرائيل في كل حيثيّات وتطورات الصراع العربي الصهيوني، وتأييدها المطلق لهذا الكيان العدواني المصطنع في كل عدوان يشنُّه على الفلسطينيين أو على أية دولة عربية ، وتبرير كل ما يفعله من عمليات اغتيال وتدمير وتشريد ، دون التفاتٍ إلى أيّ معنى من معاني الحق والعدالة ، ولو بشكلٍ جزئي أو حتى ظاهري ، والحيلولة دون صدور أي قرار دولي عن مجلس الأمن يدين أعمال هذا الكيان العدوانية ، وتضطر لاتخاذ « الفيتو » عشرات المرات لهذه الغاية ؛ هذا موقفها الصلب الدائم الذي لا يتغير في جميع المحافل الدولية ، وهي / أي الولايات المتحدة / لا تكتفي بذلك ، بل تشنُّ هجوماً إعلامياً ،وتوجّه انتقادات شديدة اللهجة لبعض الدول الصديقة التي تتجرّأ على انتقاد تصرفات الكيان الصهيوني ، أو تدين أحياناً ما يصدر عنه من اعتداءات ومواقف، هذا جزء ثابت من السياسة لكل الإدارات الأمريكية الجمهورية منها والديمقراطية ، وهناك إضافةً إلى ذلك ، الدعم المالي الكبير ، والدعم العسكري غير المحدود والمجانيّ ، وتزويده بأحدث أنواع الأسلحة المتطورة والفتّاكة .
لا شك بأنَّ كلَّ هذا كما أشرنا قبل قليل يُعجِّل في إنهاء الزعامة الأمريكية للعالم التي امتدت على مدى عقدين من الزمن أو أكثر بقليل ..
إن هذا الكلام ليس مجرد أوهام كما يعتقد البعض ، ذلك لأن التحولات الإستراتيجية على الصعيد الاجتماعي والتي تتّسم بالبطء الشديد والتغيّر غير المنظور ، قد لا يدركها كثير من الناس ، ولكنها الحقيقة التي يدركها علماء الاجتماع الذين يتّصفون عادةً ببُعد النظر ، وعمق التجربة ، ودقة الإحساس بالمتغيرات .
من البديهيات ألا ينتصر الباطل على الحق ، وألا يستمر العدوان ، إلا عندما تكون الأوضاع مُختلةً ، وعندما يسودُ التضليل والخداع والجهل والكذب الذي يُمارس تحت سيف القوة . وهذا لن يستمر إلى الأبد ، لأنَّ حبل الكذب قصير – كما يقال وكما هو معروف على أرض الواقع – حيث ستصحو الشعوب والجماهير المُضللة ، وسوف تنكشف الحقائق والحيل ومصائد الأعداء وأعوانهم ، وتظهر الحقائق جليّة واضحة ، وعند ذلك ، سوف تقول الشعوب كلمتها ، وسيكون لها مواقفها الشجاعة ، ولو بعد تقديم مهرٍ غالٍ من التضحيات وضريبة باهظة للنصر ، فالنصر كان وسيبقى حليف الشعوب الواعية والعاملة دائماً والمتمسّكة بحقوقها ، مهما كانت الصعوبات وكثرت التحديات والمُعيقات .
إذاً ، الولايات المتحدة لن تبقى كما هي متسلطة على مقدرات ومصائر الشعوب هنا وهناك ، معتمدةً على قواها العسكرية وحروبها العدوانية و تدخّلاتها في الشؤون الداخلية للدول تحت ذرائع واهية منها : نشر الديمقراطية ، والمحافظة على حقوق الإنسان، ومساعدة الشعوب في مجالات التنمية ؛ كلّ هذه الذرائع – كما أثبتت تطورات الواقع كانت ستاراً وقناعاً لتحقيق أهداف أميركية باتت معروفة للجميع ، وفي مقدمتها الهيمنة على النفط العربي استخراجاً و تسويقاً ونقلاً ، وحماية أمن إسرائيل في المنطقة ، لأنها القاعدة الاستعمارية المتقدمة في المنطقة . وها هي بوادر انهيار الإمبراطورية الأمريكية الهوجاء بدأت بالظهور ، من خلال الضائقة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها والتي يُحذَّر منها جهابذة المال الأمريكيون ،ومن خلال رفض العديد من دول العالم ، وخاصة الكبرى، منها لاستمرار انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم والتحكّم بمصير دوله وشعوبه ، فروسيا الاتحادية في ظل قيادة « بوتين « والصين ، ومعها عدة دول صناعية كبرى تقف لأمريكا بالمرصاد وتعطل العديد من مشاريعها وخططها الاستعمارية ، ولا تسمح لها بأن تمضي – كما كانت – في مَدّ يدها إلى هنا وهناك لبسط السيطرة ،والموقف الروسي الصيني من الأحداث التي تجري في سورية مؤشرٌ واضح على ذلك ؛ هذا الموقف الذي أوقف التدخل الأمريكي و الأوروبي العسكري في سورية على غرار التدخل الذي حصل في ليبيا وحوّلها إلى بؤرة عدم استقرار.
وبالتوازي مع ذلك ، فإنَّ الكيان الصهيوني هو إلى زوال مُحتَّم ، لأنه بالأساس ككيان قام على الباطل ، وانبثق من رحم العدوان ، فهو من حيث النشأة يتشابه مع الولايات المتحدة الأمريكية فكلاهما تأسّس على أنقاض شعبين عريقين صاحبيْ حضارة وتواجد عبر التاريخ ، فالأمريكيون قضوا على الهنود الحمر ، وإسرائيل شردت شعب فلسطين هنا وهناك بعد أن ارتكبت مجازر دموية بحق أبنائه وبعد أن سوّت مئات المدن والقرى الفلسطينية مع الأرض و أقامت على أنقاضها مستعمرات ومستوطنات يهودية لشذاذ الآفاق .
إن هذا الكيان سينهار لا محالة مهما أوتي من قوة علماً بأن هذه القوة بدأت تتداعى وتضعف ... هذا ما تنطق به سنن الكون .
ومما يجدر ذكره أن هناك بعض الأصوات الأمريكية النزيهة والمخلصة لبلادها التي ارتفعت تحذر من الانحياز الأمريكي السافر إلى جانب إسرائيل ، وما له من تداعيات آنيّة ومستقبلية ضارة على المصالح الأمريكية أو بالأحرى مصالح الشعب الأمريكي ، إلا أن هذه الأصوات لم تَلْق مع الأسف آذاناً صاغية من قبل مسؤولي الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، ديمقراطية منها وجمهورية ، لأن مصالح هؤلاء المسؤولين المتحالفين مع الشركات الكبرى ومصانع السلاح هي التي توجه السياسة الخارجية الأمريكية ، إضافة إلى التأثير الطاغي للوبي اليهودي على السلطات الأمريكية بدءاً من البيت الأبيض وانتهاء بمجلسي النواب والشيوخ و كافة صنّاع القرار .