هذا اللامألوف هو ما دعا أصحاب النظرية المدرسية لتعريفه بأنه فن يعتمد على تشويه وتضخيم وشقلبة الأشكال
لهزءٍ ما أو نقدٍ وكسر قدسية ما ولم يوفر مشتغلوه جانباً من الحياة إلا خاضوا برسومهم به, حتى ناله من محاكم التفتيش كل عقوبة متصورة لكنه ظل موجوداً ومع ظهور الصحافة انتشر انتشار النار في ذيول الثعالب التي أطلقها شمشون.
سريعاً خرج عن القهقهة وأنزل الدمعة وسخر من فكرة التضخيم والتشويه, ليصبح « حنظلة» ناجي العلي, اسما آخر لفلسطين, صار الشكل, دالاً, عتبة عنونة, أحياناً يلعب بالتوازي مع الدلالات التي يتضمنها, كأنه المفتاح الذي يعلق برقبة كل فلسطيني, فهو التاريخ والحاضر والمستقبل وجاء اغتيال ناجي العلي ليجذره في واقع المعاناة صار حنظلة أفقاً آخر لفن الكاريكاتير نقله من السخرية للتهكم والفرق بين الحالتين, إن السخرية تبقى في حيز الفضح لكن التهكم نقل الحالة من الفضح,فالهدم, فالبناء كل هذا يعني أن التعريف المدرسي لايدل أبداً إلى ما صار إليه الفن وفي المقلب الآخر توقف الشكل عند التمهيد للدلالات أو الفِكر المقدمة, فكان ممثلاً لكلاسيكية العنوان كصورة الرجل الذي يعتمر قبعة العم سام.
الكاريكاتير فن هيرمونيطقي يأخذ من الرسم وسيلة تعبيره, يؤسس نفسه في سيميائية العلامة وخاصة في الحالات التي لايصاحبها التعليق, مجرد خطوط وظلال تنتقي ما تشاء لتوصل فكرته, فلم يعد الإنسان كجسد هو المدار بل صارت منتجاته, كالأرقام والأحرف والأعلام والماركات بل كل شيء وفق هيديغرية الوعي, أخذ الوعي حيزاً كبيراً فيه وعليه بدأ بنقل الحالة الداخلية للعلامة سواء أكانت إنساناً أو غيره للخارج, بحيث أصبح كالقراءة النفسية للأحلام, رسم يحتمل قدر ما تستطيع من تفسير, هكذا تكون التاء المربوطة قنبلة أو عين تدمع.
بين لونين أبيض وأسود أو كامل ألوان الطيف, يتنقل الرسم الكاريكاتيري, فرض ثنائية اللونين كيفية الطباعة التي كانت محصورة بهذين اللونين إلى أن تطورت فيما بعد لكن هذا لم يعنِ انحسار ثنائية الأسود والأبيض, إذ صارت نفسها مفارقة تطلب لذاتها ولتحقيقها مدلولات أخرى تفشل الألوان في تحقيقها ولنعد لناجي العلي ولونيه المفضلين الأسود والأبيض إذ بهما أعلن عن موقفه الذي لا يقبل «لو، لولا» ففلسطين لا تحتمل الرمادي ولا لوناً آخر.
هكذا يتقدم فن الكاريكاتير على يد مبدعيه, متهكماً كل محاولة لتعريفه أو تبنيده أو حصره, فالكلمة التي كانت ترافق رسمه صارت هي بذاتها رسماً كاريكاتورياً.
نعود لقرودنا الثلاثة الذين تقاسموا إغلاق أهم منافذ العقل لمعرفة العالم, السمع والبصر والنطق والدلالة المتخفية وراء القرود الثلاثة أنهم كثيراً ما يجتمعون في شخص واحد.