كم من الشعراء والكتاب يفكرون على طريقة نزار قباني?هناك الكثيرون لا يقتنعون بأن حبر الإبداع لديهم قد جف, أو أن للقارىء ذاكرة ستطالع حروفهم بعد الموت.
مصدر إلهامي
الشاعر الكبير سليمان العيسى الذي حفظته ذاكرة الأطفال والكبار وقارب التسعين ولا يزال مبدعا يرى بأن الكتابة بقاء, لا بل إنها تعادل وجود الإنسان فما دمنا نكتب فنحن إذا موجودون, الكتابة تحييني, وما دمت حيا فيجب أن أكتب لأنني أحمل هما وهاجسا يشغلني, وهو مصدر إلهامي وعندما يزول أتوقف عن الكتابة.
عندما أكرر نفسي أتوقف
أما الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم فلا يعتقد بأن هناك زمنا محددا للتوقف عن الكتابة, كما أنه ليس هناك وقت محدد ليبدأ الكاتب إبداعه, وضرب مثلا الشعراء الروس, فأحدهم بدأ كتابته وهو في الخمسين من العمر, كما أن نجيب محفوظ, والاستاذ الكبير صدقي اسماعيل بقيا يكتبان حتى آخر لحظة من حياتهما, أما بالنسبة لتجربتي الشخصية, فأنا سأتوقف عن الكتابة عندما أشعر أنه لم يعد لدي جديد, فالمسألة تتعلق بطبيعة الكاتب نفسه, فالذي يكف عن القراءة ومتابعة كل جديد في الإبداع, عليه أن يتوقف عن الكتابة مبكرا, وباعتقادي أن هناك قضايا تحرّض الكاتب في أي عمر كان, والحديث عن ضرورة توقف الكاتب في عمر ما عن الكتابة ليس سوى أحلام صراع الأجيال, شكسبير لم يتوقف عن الكتابة لأنه في كل عمل كان يقدم جديدا, وإبداعا قيما ما زالت الإنسانية تستمتع به حتى الآن. باختصار يمكن للأديب أن يتوقف عن الكتابة كما فعل الشاعر الفرنسي رامبو لأنه شعر بأنه قد قال كلّ ما عنده, ولم يعد لديه ما يقوله, وهذه القضية هي المقياس في تحديد الوقت الذي يمكن للمبدع فيه أن يتوقف عن الكتابة, وأنا أعرف باليقين أن الماغوط الشاعر السوري العظيم ترك آخر ديوان له بعد وفاته عند القراء في وزارة الإعلام واتحاد الكتّاب, وعبد السلام العجيلي الروائي السوري الكبير ابن الرقة بقي كما حدثني أخوه يكتب حتى لحظاته الأخيرة , وكذلك الشاعر والمترجم المبدع ممدوح عدوان كان مثل الثاقب في السماء.
أما بعض الكتّاب والشعراء فعليهم أن يتوقفوا عن الكتابة, لأنهم لم يعودوا قادرين على تقديم نص مشابه أو قريب من النصوص التي قدموها سابقا.
لأن المسألة متعلقة باجتهاد الكاتب والمبدع, بنبضه, بثقافته بقدرته على متابعة الجديد, وهو برأي الذي يحدد مسيرته والوقت الذي عليه أن يسقط القلم من يده.
وأعمال سعد الله ونوس التي كتبها وهو يصارع المرض, كانت أهم الأعمال الإنسانية الكبيرة التي قدمها ابن حصين البحر, وأذكر الشاعر الفلسطيني فواز عيد الذي ترك آخر ديوان له ولم يره مطبوعا والكثير من التجارب الشابة.
يقول محمود درويش لقد تعلمنا منه الكثير عندما كان ينشر في الآداب في الستينيات.
عقارب الشعور لا تتوقف
ليس الشاعر لاعب كرة قدم حتى يتحكم بميزان حياته فيعلن اعتزاله متى شاء. هذا ما قاله صالح هواري الشاعر الفلسطيني ابن طبرية وأضاف: الشاعر رسول ملهم تتلبسه الحالة الشعرية في كل لحظة من لحظات حياته, فنراه يكتب وهو سائر في الطريق, ويهمس وهو في غيبوبة النوم, أو حتى تحت شجرة في الحديقة, وما دام الشعر جزءا من حياة الشاعر, أو حياته كلها فكيف يكون بإرادته أن يمسك عقارب الشعور ليوقفها عن التدفق متى أراد, ومن البديهي أن تتوقف عجلة العطاء الشعري بمجرد توقف النبض عن الخفقان, فالهواري لم يسمع حتى الآن أن شاعرا أعلن اعتزاله وكسر قلمه, وخير برهان على ذلك الشاعر القروي ومهدي الجواهري وشوقي وحافظ ابراهيم وغيرهم كثير, ظلوا يكتبون حتى آخر نفس من حياتهم.
فقد أثبت الزمن أن الكاتب الحقيقي توقد منجم عطائه في حالة مرضه أكثر فأكثر, كأنه يريد أن يثبت للزمن أنه لا يستسلم لظروفه الصعبة التي تنتابه ولئن كفّ عن العطاء في فترة ما ورقد منهل إبداعه لبعض الوقت, فكل مبدع تمر عليه فترات يتوهم أن منهله الإبداعي جفّ, لكن ما يلبث أن يعاود نشاطه ويتجدد مثل الينبوع.
جرح متواصل
أما الشاعر عصام خليل فقد رأى بأن الكتّاب نوعان:
الأول: مستقيل وهو على رأس كتابته! على الرغم من أنه يمطر القرّاء العزل بإبداعاته المتواصلة, لأن الكتابة بالنسبة إليه, عمل آلي مؤسس على شيء من الموهبة-لا شك- لكنه-يتابع خليل- يتواصل بفعل المران والدربة, وتحت وطأة الإحساس بوجوب الكتابة, بصرف النظر عن قدرة ما يكتبه على التأثير في نفوس وأحاسيس الآخرين, فالكتابة عمل ينبغي أن ينجز ! وكمية من الإنتاج تضخّ في السوق, لتجاور غيرها من السلع الكاسدة والمخصصة للغبار, والتي ستؤول الى الموت مهما كان زخرفها جذّابا وأسلوب عرضها باعثا على الشراء, وهي ستموت حتما بمجرد توقف كاتبها عن استهلاك الأوكسجين.
أما النوع الثاني فهو عند خليل: لا يستقيل, وليس بوسعه الاستقالة, لأن الكتابة بالنسبة إليه جرح متواصل, يتدفق بمقدار ما يعانيه, ويشتعل في روحه من غضب, وفرح, وحزن, وحنان, وقد يكون الجمر أقسى من قدرته على الاحتراف, فيصمت حتى يرمم خلايا عمره, ويعيد سكب الموج في هدوء البحار.
الكاتب الذي يستخدم مفردات الروح, وحبر الأعصاب لا يستقيل, ولا يكفّ عن الكتابة إلا عند الموت!
فحياته القصيرة موت طويل متواصل, لكنه لا يطلق إلا الصراخ العالق في أسماع الأفق,وصرخته لا تنتهي عندما يردُّ على أكتافه شراشف العشب.
فالكاتب الحقيقي كما يراه عصام خليل, تبقى كتاباته ملتزمة دوامها الرسمي, فلا تحال على التقاعد, وتظلّ كالحديقة العامة مفتوحة لكل راغب في الخضرة, وكالسماء المخاتلة, يمدُّ الأطفال أصابعهم بإمساكها, ولكنهم يقررون إبقاءها في مكانها, عندما تعجز أصابعهم العابثة عن قطف نجومها.
ويخلص خليل: إلى أن الاستقالة من الكتابة يقررها الإيمان?
عندما يؤمن الكاتب بنفسه وبموهبته, وبأن موته لا يعني موت كتابته, فإنه يقسو على نصوصه, ويعمل على ترتيبها كما أولاده, لتكون ذرية صالحة, وعندما يفتقد الإيمان, فإنه يحولها إلى ثرثرة يكرر فيها أقاويله وحكاياته.
الكاتب الحقيقي يكتبه النص, ولا يكتب النص, ترجمة المفردات تجتاحه الأفكار مثل الريح الغاضبة, وفي كل عصف, مقتطع من روحه سهوبا جديدة لخيولها البرية السائبة.
عندما يكون النص كاتبا فهو لا يستقيل... لأن النص الكاتب يضيف الى الحياة, والمكتوب عبء عليها.
بلسم شافٍ
القلم هو الرفيق الوفي في عصر ندر فيه الوفاء, والكاتب صعب أن يتخلى عنه.. ما يمكن أن يوقفني عن الكتابة هو التعب الصحي وأوجاع العين, هذا قالته الكاتبة نهى الحافظ, لأنها تجد في الكتابة تخفيفا للمعاناة والضجر, فهي كالبلسم الشافي لكل الأوجاع, وعليه تضيف الكاتب: يرى ملاذه وقت الكتابة فهو يكتب لنفسه وللآخرين, لذا يجد نفسه في سطوره وهذا لا يعني أن يكون بحالة انعزالية أي لا يكتب إلا ما يحسه أو يراه, فالحياة هي التي تجعله يبني سطوره وجمله وأنا شخصيا لا أستطيع أن أتوقف عن الكتابة.