نعم أجد أن الإجابة على هذا التساؤل يثير في النفس كوامن اليباس , و كأننا نسأل المبدع : متى تعلن موتك المعنوي ..?
ولكن الواقع يشير إلى أن الابداع لا يقترن بمرحلة زمنية و لا سيما اننا نتذكر النابغة الذبياني , وقيل إنه لقب بذلك لنبوغه بالشعر في سن متأخرة من عمره ..
و العمر ليس مقياساً حقيقياً , فقد يمتد بالمبدع و يرتد الى أرذله و لكنه لا يترك أثراً ذا قيمة , و ربما مبدعون في حياتنا كانوا كالشهب مرّوا ضيوفاً على هذا العالم لم يمكثوا فيه طويلاً و لكنّ إبداعهم أخذ مداه و خلد أسماءهم في كل زمان و مكان , هل نتذكر (طرفه بن العبد , أبو فراس الحمداني , أبو القاسم الشابي , ابراهيم طوقان , فوزي المعلوف , عبد الباسط الصوفي ), و آخرين و هذه الحال موجودة في الأداب العالمية كلها, في الأدب الروسي والفرنسي و الياباني الخ..
> حين ينضب الإبداع ..
لا بد ّ أن ّ هذه الحال ستأتي يوماً ما و يقف الأديب بمواجهتها و قد رأينا في تاريخ أدبنا العربي أمثلة على ذلك , و من هنا يتوقف الدارسون عند انتحار / خليل حاوي / الشاعر اللبناني الذي انتحر عام 1982 م و يرى الكثيرون الى أن في ديوانه الأخير لم يستطع أن ويحقق شيئاً ذا قيمة , و تعرض لهجوم نقدي قاسٍ , بل ذهب بعضهم الى حدّ الادعاء أنه ذهب لقتل ناشر ديوانه , و على هذا الأساس يرون أنه أمام مجمل الإخفاقات انتحر , و على رأس هذه الإخفاقات نضوب الابداع , و يشار كذلك الى انتحار أرنست همنغواي الذي لم يستطع أن يتجاوز رائعته ( الشيخ و البحر ) ..
بالوقت نفسه ثمة أسماء كبيرة عاندت مسيرة الحياة وظل بعضهم يكتب و ( يخربش ) ويقدم نصوصاً إن صّحت التسمية لا نص لها سوى إنها تتكىء على اسم صاحبها , و بما جاملتهم الصحف من باب الإكرام المادي و المعنوي حيث كانوا يكتبون , و قد نشر بعضه في صحفنا و لو أن تلميذاً في المرحلة الاعدادية تقدم به على أنه موضوع إنشاء لنال درجة الصفر , ,و مع ذلك هللنا و طبلنا لهذا السخف .
> بين مرحلتين ..
ذات مرة تحدث حنا مينة عن جزء ثان لرواية من روايته و كان قد وعد بإنجازه منذ سنين , و ذكر أن الكثيرين طالبوه بهذا الإنجاز , بل إن بعضهم عرض أن يتبرع بالمال , لكنّ الكاتب أعلن أن هذا الجزء لن ينجزلأن الظروف تغيرت و الأحوال تبدلت أحوال الكاتب الجسدية و النفسية و اللحظة تلك عبرت و صارت و سما في تاريخ الرواية العربية , و حسب قول حنا مينة لن تتكرر , لقد كان صريحاً ذكر أسباب عدم إنجاز الجزء الثاني , وربما لاحظ القراء أن رواياته في المرحلة الأخيرة لا تصل إلى مكانة الروايات الأولى .. وعلى العكس من ذلك ثمة مبدعون حين يصلون الى الذروة يعملون حذفاً و تعديلاً فيما قدموه من إبداع , يتنكرون لتاريخهم الابداعي و لكل محطة من محطاته .
> السباحة على اليباس ..
في الأدب العربي ثمة محطات تذكرنا بالمبدعين الذين حلقوا عالياً و إذا بهم فجأة يهبطون الى مستوى لا يليق بهم على الإطلاق و كان الأفضل لو أنهم توقفوا عند الذروة الشاعر القروي يكتب قصيدة لسوسو يقول فيها :
سوسو يا سوسو لبيك - عصفورك ما بين يديك
يا سوسو يا أخت البدر - يا بنت الحرّة و الحرّ
لا أملك شعراً أنشده - لك أحسن من هذا الشعر
جودوا بالعذر على القروي -و إلا مات من القهر ..
و سلام الله و رحمته - و رضاه عليهم وعليك
سوسو يا سوسو لبيك .
و لا أظن أن الأمر يحتاج الى تعليق أو مقارنة بأي من قصائده و قد اعترف أن هذا الأفضل لديه الآن في الإبداع .
و كذلك فعل بدوي الجبل في مطلع سن 1980 م إذا كتب قصيدة أرسلها تهنئة لعروسين يقول فيها :
- سمييّ بيننا قربى وحب - على الأيام معروف قديم
- و قد فتشت عن حسن و حسنٍ - و أحلى اثنين بسام و ريم ..
و هنا يحضرني أيضاً ما كان يكتبه نجيب محفوظ أواخر أيامه و كانت القطع الصغيرة تقدم على أنها أحلام ورؤى يقدمها لقرائه و تنشرها المجلات المصرية , و ذهبت مع أدراج الريح .
و إذا كان الشيء بالشيء يذكره فإنه من الجدير الإشارة الى أن الأخطل الصغير و قف أمام هذه الحال من الوصول إلى نهاية مطاف , و ذلك في حفل تكريم أقيم له إذ قال :
اليوم أصبحت لا شمسي و لا قمري من ذا يغني على عودٍ بلا و ترٍ ..?!
ويسأل بمرارة : ما للقوافي إذا جاذبتها نفرت مني ?
الجواب عند كل مبدع , و أروع من هذا و ذاك أن يعرف المبدع متى يصل الذروة و يحافظ على إنجازه .. هل نؤسس لثقافة الاعتراف بأن الجعبة خاوية و أننا أحياناً نسبح على اليباس .. حتى الآن لم نرَ ذلك على أرض الواقع فهل سننتظر طويلاً .. سؤال نضعه أمام المبدعين .