من أبرز أسباب نجاح وتميز هذه الدراما المشغولة ككل بأياد موهوبة شابة التفاتها إلى تفاصيل الحياة اليومية,إذ تغرف من لحظات معاشة عادية يمكن لأي منا تلمس صدقها ومدى حساسيتها ضمن سياقها الموضوعة فيه.
ومسلسل (يوم ممطر آخر) الذي يعرض على قناة mbc إخراج: رشا شربتجي وسيناريو: يم مشهدي يصب في خانة هذا النوع من الدراما التي تعنى بإلقاء مزيد من ضوء على تفصيل ما, يكاد يكون مهملاً في خضم وزحمة القضايا الكبرى التي تفور بشعاراتية خاوية جوفاء ممجوجة, وقع في مطبها سابق الأعمال.ولكنه- أي التفصيل- يمتلك تلك الخاصية التي تجعل منه حياتياً يلامس جزئيات تمرّ بنا وتحدث معنا في قطار يومياتنا المهدورة عبثاً. تفصيل..نعم إنه مجرد تفصيل ..وعابر غالباً.
لكن (يوم ممطر آخر) يحسن التقاطه ووضعه تحت عدسة المكبر.
فلا نملك عندها إلا أن نرى شبهاً لنا أو لأحد من حولنا في نقطة أو مشهد ما,في شخصية.. في جزئية..أو حدث أو ظرف ما..
إدهاش يحسن إيهامنا به الفن فقط,إحساس يتأتى من إيهام بالواقع. نجح طاقم المسلسل جميعه بممارسته ولا سيما أن الإطار العام للعمل يعكس بالعموم حياة الطبقة الوسطى, التي أخذت وتأخذ شيئاً فشيئاً بالتلاشي, في ظل المتغيرات العالمية الاقتصادية وحتى السياسية المتسارعة حولنا, والتي من أولى آثارها في مجتمعاتنا العربية تهشيم الطبقة الوسطى, المحرك الأساس والمنبت الأكثر ملاءمة لكل حراك وتطوير باتجاه الأفضل, جميل أن تهتم الدراما بقضايا ومشاغل هذه الطبقة فتعيد لها شيئاً من حياة ..تعيد لها حياتها التي تسرق منها رغماً عنها, حياة تخطف منا وبالمجان, كما لو أن في الأمر نوعاً من تحقيق توازن مفقود على أرض الواقع.
وبالطبع تمتزج حياة هذه الطبقة بالسياسي والاجتماعي, فالمسلسل يحمل في طياته الأمرين معاً,وإن كانت الكفة ترجح نحو نقل الاجتماعي أكثر..فالسياسي المطروح هنا لايأتي بشكل مباشر فجّ..على سبيل المثال: تتحدث شخوص العمل عن أزمة ارتفاع أسعار البيوت بسبب قدوم العراقيين .
هي إشارة بسيطة ولكنها موظفة بشكل صحيح في سياقها دون أن تكون نافرة ومبالغاً بها, بل جاءت معبرة عن أصغر أثر ممكن ومتوقع من آثار احتلال العراق على البلاد المجاورة له.
بعيداً عن السياسة, يخطو العمل خطوة أكثر جرأة في محاكاته لتفاصيل العلاقات الاجتماعية -الارتباط أو الزواج بين أديان مختلفة- هو أكثر جرأة من الأعمال الدرامية الأخرى التي عرضت لهذا الموضوع. لأنه يصور ردود الأفعال المتوقعة بما فيها من قسوة وجفاء في مثل هذه الحالات.
هكذا أعمال تمتلك شجاعة الغوص في العمق..تنكأ جراحاً مسكوت عنها, محاولة بأسلوب غير مباشر طرح إمكانية التغيير والإتيان بالجديد الأكثر ملاءمة للحياة الحالية والقادمة.. القادر على الخوض في سلطة العرف الاجتماعي..عرف يكاد يكون في كثير الأحيان,أكثر سيطرة وسطوة حتى من تشريعات دينية ومدنية.
ولنرى الأمور فيما لوتحقق ذلك التغيير المطلوب والمأمول,لنراها بجانبها المشرق والأكثر صدقاً وإنسانية.. لأن وبكل الأحوال حصول ذلك أفضل من بقاء أمور معمول بها ويتستر عليها في الظلام وبالخفاء.
(يوم ممطر آخر) نموذج جميل وحي لدراما سورية, توقِّع مؤخراً بإمضاء جيل الشباب.. السائر دوماً نحو دراما أكثر صدقاً وواقعية وقدرة على محاكاة حياتنا- حياتهم, نحو دراما أكثر التصاقاً بنا, تنطق عين كاميراها بواقع حياة الناس..
حياة الشارع السوري بأبنيته المتنوعة والعشوائية بعيداً عن حياة قصوره وفلله الخيالية..