فإذا كانت نسبة انسحاب الطلاب من برنامجٍ ما كبيرة فهذا مؤشر على أنًَّ هذا البرنامج يعاني من مشاكل خطيرة تدفع الطلاب إلى الانسحاب منه, وبالتالي لابدَّ من تدارك النواقص أو المشاكل التي يعاني منها.
لكننا وجدنا عند مشاركتنا في عدد من المشاريع الدولية والإقليمية التي تُعنى بتقييم جودة البرامج التعليمية أنَّه لا يمكن تطبيق هذا المعيار (أو المؤشر) عند تقييم برامجنا التعليمية وبشكلٍ خاص في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى.
ذلك أن الدوافع التي تدعو الطلاب المسجلين في برنامجٍ ما في إحدى الكليات إلى الانسحاب أو الخروج قسراً (الفصل من الجامعة) قليلة. فالأقساط الجامعية التي تدفعها الغالبية العظمى من الطلاب (باستثناء التعليم الموازي) أقساط رمزية ولا تشكل عبئاً حقيقيا على دافعيها إذا ما مكثوا مدة طويلة في الجامعة. كما أن زمن المكوث الأعظمي المسموح به في الجامعة وفق القوانين الجامعية يبلغ ضعف زمن المكوث الأدنى (إلى أن عدِّل مؤخراً بالنسبة للدفعات الجديدة) وهذه المدة طويلة نسبياً وهي, إضافة إلى الأقساط المتدنية, لا تشكل عامل ضغط حقيقي على الطلاب يدفعهم لإنهاء فترتهم الدراسية بأقصر زمن ممكن.
إضافة إلى ذلك هناك بعض المنافع التي يمكن لبعض الطلاب أن يجنوها من البقاء أطول فترة ممكنة في الجامعة خاصة في الاختصاصات الأدبية التي لا تتطلب حضوراً مستمراً, كتأجيل الخدمة الإلزامية على سبيل المثال, والتوظف في إحدى الجهات العامة أو الخاصة وتحويل نمط الدراسة إلى دراسة بوقت جزئي عوضاً عن التفرغ التام للدراسة كما تفترضه الأنظمة.
لذا فقد استعضنا عن قياس مؤشر معدل الانسحاب من برنامج ما بقياس مؤشر آخر هو الزمن الوسطي لمكوث الطالب في البرنامجٍ. وقد تبين نتيجة تحليل معلومات عن عدد من الدفعات المقبولة في بعض كليات الجامعة على مدى خمس سنوات أنَّ الزمن الوسطي لمكوث الطالب في الكليات التي تتطلب معدلات قبول عالية في شهادة الدراسة الثانوية كالطب والهندسة وغيرها لا يزيد كثيراً عن الزمن الأدنى للمكوث في البرنامج. فقد بلغ على سبيل المثال الزمن الوسطي لمكوث الطالب في كلية الهندسة المدنية حوالي 6.1 سنة أي بزيادة مقدارها حوالي 20% فقط عن الزمن الأدنى لمكوث الطالب في هذه الكلية وهو خمس سنوات, ويقل بكثير عن الزمن الأعظمي للمكوث (10 سنوات), وتبين أن 50% من الطلاب في هذه الكلية يكملون دراستهم خلال المدة الدنيا أي خمس سنوات, و20% خلال 6 سنوات, و12% خلال 7 سنوات. أما الزمن الوسطي لمكوث الطالب في الكليات التي تتطلب معدلات قبول منخفضة في شهادة الدراسة الثانوية كالكليات النظرية, فإنه يزيد بشكل ملحوظ عن الزمن الأدنى للمكوث ويقترب من الزمن الأعظمي المسموح به. فقد بلغ الزمن الوسطي لمكوث الطالب في كلية الحقوق حوالي 6.5 سنة أي بزيادة 62% عن الزمن الأدنى للمكوث وهو 4 سنوات, وفي قسم اللغة العربية في كلية الآداب بلغ الزمن الوسطي لمكوث الطالب 6.7 سنة, أي بزيادة 67% عن الزمن الأدنى للمكوث وهو 4 سنوات. وقد تبين نتيجة الدراسة أن 26% فقط من الطلاب يكملون دراستهم خلال المدة الدنيا في كلية الحقوق, وأن هذا الرقم ينخفض إلى 20% في قسم اللغة العربية.
غير أنه لا يمكن عدّ زمن المكوث الكبير في برنامج ما في جامعاتنا على أنه مؤشر على وجود ضعف في هذا البرنامج على الرغم من أنه مؤشر على وجود مشاكل تتطلب المعالجة. فزمن المكوث الطويل يؤدي إلى تفاقم أعداد الطلاب في الكلية الأمر الذي يسبب ضغوطاً كبيرة على البنى التحتية والمرافق والعمليتين التعليمية والإدارية. وعلى الرغم من أنَّ اللائحة التنفيذية الجديدة لقانون تنظيم الجامعات خفضت الزمن الأعظمي المسموح به لمكوث الطالب في الجامعة من ضعف زمن المكوث الأدنى إلى ما يزيد ب 50% فقط عن زمن المكوث الأدنى (أي ست سنوات في الكليات التي مدة الدراسة فيها 4 سنوات) , إلا أن ذلك لا يعد كافياً, ولابد من اتخاذ إجراءات إضافية تحثُّ الطلاب على إنهاء دراستهم بأقصر فترة ممكنة, كزيادة الأقساط الدراسية على الطلاب الذين يتكرر رسوبهم في السنوات الدراسية بحيث تزداد الرسوم الدراسية بشكل تصاعدي مع زيادة زمن المكوث عن الحد الأدنى.
ولابد من توخي الحذر عند قياس المؤشرات المتعلقة بتقييم البرامج التعليمية, ومراعاة السياق المحلي عند تحليلها وتعليلها. فعلى سبيل المثال, شاركت جامعة دمشق في المرحلة الثانية من مشروع تحسين ضمان الجودة والتخطيط المؤسساتي في الجامعات العربية الذي يرعاه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقد اشتركت كلية التربية في هذا المشروع إلى جانب كليات التربية في ثماني وعشرين جامعة عربية وقامت بتقييم برنامج دبلوم التأهيل التربوي فيها. لقد جرت عملية التقييم وفق معايير وكالة ضمان الجودة البريطانية. وعندما قام فريق الخبراء البريطانيين من هذه الوكالة بزيارة الكلية لتقييم البرنامج المذكور والتحقق من تقرير التقييم الذاتي الذي أعدته الكلية, وجد أن معدل الانسحاب من البرنامج (التسرب) وهو أحد أهم معايير التقييم المعتمدة في الوكالة, مرتفع جداً وخاصة فيما بين الذكور الذين يكاد ينعدم وجودهم في القاعات التدريسية على الرغم من قبول العديد منهم في البرنامج المذكور. وكان يمكن لهذا المؤشر أن يشكل نقطة سلبية جداً بالنسبة للبرنامج, غير أن اللجنة لاحظت من خلال المقابلات التي أجرتها أن العديد من الذكور الذين ينتسبون إلى البرنامج يقومون بذلك بغرض تأجيل الخدمة الإلزامية وليس للحصول على دبلوم التأهيل التربوي. وبالتالي فإن نسبة عدم الإكمال الكبيرة عند الذكور لا تعدّ مؤشراً سلبياً على ضعف البرنامج وإنما مشكلة تتطلب المعالجة خارج البرنامج, وبالرغم من أنَّ نتيجة عملية التقويم كانت في النهاية مرضية, مع وجود بعض الملاحظات التي يجب تداركها, إلا أنه لا بدَّ من إيجاد حل مناسب لظاهرة الانتساب إلى البرامج التعليمية, خاصةً على مستوى الدراسات العليا, ليس للتعلم وإنما بغرض تأجيل الخدمة الإلزامية, ما يفوِّت الفرصة على العديد من الراغبين بالتعلم حقاً.
إن هذه الدراسات والقياسات التي بدأت جامعة دمشق القيام بها منذ عدة أعوام والمشاريع التي شاركت بها, إنما تهدف في نهاية المطاف إلى تقييم برامجنا التعليمية وأنظمتنا الإدارية والتعرّف على مواطن الخلل ونقاط الضعف فيها. وهي تشير إلى وجود مشاكل هامة تستدعي المعالجة كزمن المكوث الكبير للطلاب في بعض الكليات وظاهرة التسرب من بعض برامج الدراسات العليا. ولابد من إيجاد حلول جذرية لهذه المشاكل, وعلى كافة الصعد, بغية توفير فرص تعليم أفضل للراغبين حقاً في التعلم.