حتى التي كانت في قيادتها منسجمة مع منظومة دول الاعتدال العربي لكي يكون مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني مفتوحاً أمامه الطريق استكمالاً لمهام كامب ديفيد التي قطعت الطريق عليها دولةُ الصمود سورية، وأوقفت منذ العقد العاشر من القرن الماضي مسلسل الانهيار العربي الذي كانت تقوده الدول الأعرابية ممالكاً ومشيخات. نعم حين يشتغل المركز القومي العربي في التحليل السياسي لما جرى منذ العام 2011 من حرب على العرب إعلامية، وثقافية، وتدميرية.
سيتوصل إلى منظومات استهدفت في رأسها منظومة الأمة الواحدة ليكون البديل أمماً، والأرض الواحدة ليكون البديل التقسيم، والثقافة التاريخية الواحدة ليكون البديل ثقافات متصادمة، وليست متجاذبة، وآمالاً ليست مشتركة، ولا مشيئة واحدة لهذه المجموعة البشرية، أو الجماعة من الناس التي ائتلفت في عقد اجتماعي، ثقافي، تاريخي منذ آلاف السنين، وتوطنت على الأرض من العراق شرقاً، إلى موريتانيا غرباً تجمعها لغة واحدة، وتمتّن بينها وحدة سياسية في الوطن الواحد، ووحدة جغرافية؛ حتى جاء الاستعمار الأوروبي فجزأها، وأقام الأقطار التي تسمى أقطار سايكس - بيكو، ودولها الوطنية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم. وأكثر ما تعرض للاستهداف مفهوم القومية العربية حتى تبرز الإثنيات المحدودة العدد على حساب الأكثرية الساحقة للذين يشكلون العرب بالمفهوم الانتمائي وبالمفهوم العرقي الدموي كذلك. ولما للخصائص المعروفة في الأنثروبولوجية العربية من أثر طيب في قبول الآخرتمكّنت أقوام متعددة من العيش إلى جانب العنصر العربي بسلام اجتماعي، ووفاق وطني، ووحدة سياسية مهمة في الآمال والآلام على الأرض الواحدة كوطن للجميع. وكل الذين حلّلوا الحياة الاجتماعية، والسياسية عند العرب تحدثوا عن الفسيفساء التي تتكون منها الأمة العربية، وسبب هذا عدم وجود العنصرية عند العرب، وإنسانية قوميتهم كحركة تحرر من الاستعمار، ومن القوى الاستغلالية التي تتبعه في التشكيل الاقتصادي العربي. فالأمة العربية تحيا موحدة عبر التنوع الإثني، والديني والمذهبي، فالوحدة في التنوع كانت سبباً في خصوبة الأمة وصمودها عبر الغزوات الاستعمارية المتكررة من الرومان إلى يوم الناس هذا. وطيلة الغزوات الاستعمارية شهدت الأمة العربية تكريساً مصطنعاً لثنائيات متقابلة لا تسمح بحسم فكرة الأمة، وظهور نظريات العمل المتوافق عليها لتشقّ لنفسها الطريق نحو العودة إلى وضعها الطبيعي في التاريخ أمةً موحدةً، جغرافياً، وديمغرافياً.
نعم منذ القرن الثامن عشر وتفتّح الأمم الأوروبية على بناء الدولة القومية، والحداثة الحضارية، وتفكيك المنظومة الإكليروسية التي وقفت بوجه العلم، والتمدن، والثقافة الوضعية اجتهدت فئةٌ منّا لتطرح فكرة: الشرق شرق، والغرب غرب، فكانت الثنائية الأولى التي وقفت بوجه التوافق العربي على ولوج زمن اليقظة العربية وصولاً إلى فكر النهضة اللازم لخروج العرب والعروبة من الاحتلال العثماني المتخلف. وبعد طرد العثمانيين من بلادنا دخلنا عصر سايكس-بيكو لتصبح الوطنية ذات جغرافية قطرية، والقومية على الجغرافية المعروفة للأمة العربية من المحيط إلى الخليج. وبين الوطنية، والقومية نشأت الثنائية الجديدة، ثم فكرة النهضة ذاتها هل تبنى على بعث الأصالة، أم على عقل المعاصرة؟ وهنا عدنا لثنائية تاريخية قبل كل الثنائيات وهي ثنائية العقل، والنقل التي عُرفت حقبة ما قبل الغزالي وما جعل الثنائيات تضرّ بالمسألة العربية عموماً هو المرجعية الاستعمارية لعدد من ممالك الرمال ومشيخاتها حيث سيطرت هذه الممالك بقوة البترودولار على المؤسسة العربية الأهم (جامعة الدول العربية) وبارتباطها مع الغرب الصهيوني عطّلت مؤسسة القمة العربية، وأنهت كل ما اتفق عليه من معاهدات العمل العربي المشترك ولاسيما في حرب الخليج الأولى، والثانية، ولاحقاً الربيع المزعوم عند العرب. ومنذ فجّر الغرب المتصهين فكرة الربيع العربي رأى المواطن العربي ثنائية جديدة هي الإدارة الدولية الإرهابية لبلده من الخارج على حساب سيادة الشعب والدولة الوطنية على أرضها. ورأى أن قرار الاستقلال لم يعد حقاً لأي دولة عربية بل صار كل قطر مطلوباً منه أن يقبل بالإدارة الخارجية له.
وفي كل تفكير عربي سيادي مستقل صار الشعب العربي يدرك حقائق الاستهداف الذي يطاله جرّاء تسليم مقاليد السيادة العربية من قبل الأعراب للتحالف المعادي لأمتنا والمستثمر بالإرهاب الدولي من أجل تدمير الدولة الوطنية، ولو أنها دولة سايكس-بيكو فقد آن الأوان لتقسيم المقسّم وصولاً إلى الكانتونات الأميرية باسم الإسلام، وقد أدخلوا الإسلام السياسي المنتج غربياً مكان الإسلام الإيماني والفقهي المنتج عربياً، ودخلنا في هذا المسعى ثنائيات جديدة بين الفكر الوهابي الإخواني التكفيري، والفكر الديني الإيماني الرباني السمح والمتسامح. وكم واجهنا من فتاوى وشيوخ فتنة نقلت القضايا العادلة للعرب إلى حقل التجاهل الدولي والتصفية، وعدم الاكتراث لكي يتم إنتاج حقبة صراع داخلي عند العرب تسمح للصهاينة بإقامة الدولة اليهودية الخالصة، وللأكراد بإقامة الكيان الكردي العرقي الخالص وصولاً إلى تشجيع كل فئة عرقية على المطالبة بالحيّز الجغرافي الخاص على حساب الوحدة الجغرافية للدولة الوطنية فنكون قد أدخلنا الأمة، ودولها الوطنية في عصر من التفتت والتشتت تحت دعاوى الديمقراطية، والمزيد من الحرية، وتعويم الإسلام السياسي.
والحاصل الذي بدأ شعبنا العربي يتمسك به، وتقوم الوفود البرلمانية والشعبية بزيارة سورية على أساسه هو أن حرب المصطلحات على سورية، قد انكشفت، ولولا أن سورية متمسكة بثوابت العرب، والعروبة، والأمة وسيادتها على أرضها، وقرار استقلالها، وما زالت تمثل قلعة العرب الصامدة ضد الاحتلال الصهيوني عبر جبهة المقاومة وثقافتها، لما كانت استهدفت بهذه الصورة من التحالف الدولي الإرهابي. وباعتبار أن الحرب الإرهابية على العرب، ولا سيما سورية تستهدف مفهوم العرب والعروبة، والأمة العربية الواحدة فقد كان تركيز حديث السيد الرئيس بشار الأسد أثناء استقباله للوفد البرلماني الموريتاني على العروبة بوصفها رابطة انتماء، وهوية جامعة في التنوع الطبيعي عند العرب مشيراً إلى ضرورة أن يكون للعروبة والانتماء رؤية شاملة حتى نستطيع الخروج من صراع الهوية الذي نعيشه الآن؛ وهذه المهمة تصبح من مقتضياتِ علمِ الاجتماع السياسي العربي، رداً على الحرب الفكرية التي يشنونها علينا لنسف مقومات وجودنا، ومشاريعنا المستقبلية.