وقد جرى ذلك الحدث عقب أيام قليلة من هجوم على عرض عسكري نفذه مسلحون يبعدون آلاف الأميال عن عفرين في محافظة الأهواز الواقعة جنوب غرب إيران، حيث أظهر فيلم مصور الجنود والمدنيين يتعرضون لإطلاق نار معاد ما أسفر عن ارتقاء 25 شخصا منهم 11 جنديا وطفل يبلغ من العمر أربعة أعوام. وقد تبنى العملية كل من تنظيم داعش وحركة الانفصاليين في محافظة خوزستان الذين يوجه لهم الإيرانيون الاتهامات باعتبارهم أذرع وعملاء للولايات المتحدة والسعودية والإمارات.
يشير ما وقع من أحداث إلى توتر في الأجواء واحتقان في المشهد ما يرجح حدوث انزلاق في جولة أخرى من المواجهات والأزمات والحروب التي استشرت بالشرق الأوسط في مختلف أصقاعه، وقد شهدت المرحلة الأخيرة من النزاع في المنطقة نهوضاً وسقوطاً لداعش وفشل كافة الحملات الرامية لإسقاط الحكومتين العراقية والسورية، حيث مني هذا التنظيم (بعد ثلاث سنوات من فرض هيمنته على مواطنين يناهزعددهم خمسة أو ستة ملايين) بهزيمة نكراء جعلته ينكفئ ليختفي في بؤر وجحور في الصحراء، في حين ما زالت الدولة السورية محتفظة بقوتها، وكذلك الأمر بالنسبة للحكومة العراقية التي تعرضت إلى هزائم كارثية إبان احتلال التنظيم للموصل عام 2014.
ما أن أخذت جولة النزاعات تسير نحو نهايتها حتى برزت صراعات أخرى بديلة بلاعبين مختلفين وحزمة من القضايا المختلفة، فالعملية التي نفذتها إحدى الميليشيات في عفرين تعتبر حلقة في مسلسل المواجهات التصعيدية بين تركيا وقسد في شمال سورية والتي ستدفع بالولايات المتحدة وروسيا للمشاركة بها مما يرجح انزلاق الشرق الأوسط نحو صفيح ساخن (بشكل يماثل الحالة التي انتهى إليها البلقان قبل عام 1914 ) حيث أصبح متخماً بالنزاعات المعقدة والضارية التي ستفضي من حيث النتيجة إلى انخراط قوى كبرى فيها.
ولاريب بأن الخطر كامن في المنطقة منذ زمن بعيد لكنه يتزايد باضطراد في ظل حكم الرئيس ترامب كونه وإداراته ينظران إلى الشرق الأوسط بمعايير مزدوجة ويعتقدان بأن ثمة أيادي إيرانية خفية في كل مكان، والجدير بالإشارة إليه، أن جورج بوش وتوني بلير كان لديهما ذات النظرة المحدودة والضيقة إبان احتلال العراق عام 2003 عندما ألقيا باللائمة على فلول الرئيس صدام حسين لجهة أي حدث في العراق.
إن المغالاة بالحديث عن «التهديد الإيراني» الذي روجت له إدارة ترامب في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يذكرنا بما قيل حول العراق قبل خمسة عشرة عاما خلت، حيث أطلق مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون تهديداته قائلا: « إن النظام القاتل وداعميه سيواجهون عواقب خطيرة إن لم يغيروا سلوكهم، نحن نراقبكم وسنتعقبكم»، وبذلك نعتقد بأن التدخل العسكري الأميركي في سورية الذي جرى بحجة محاربة داعش سيستهدف الوجود الإيراني في المستقبل. اتخذت الولايات المتحدة قراراً بالإبقاء على قوات عسكرية لها في شمال شرق سورية بذريعة إجهاض الأحلام الإيرانية، لكن ليس ثمة وجود إيراني في هذه المنطقة وإنما توجد قوات تركية، كما لن يتاح للولايات المتحدة البقاء في جزء من سورية إلا عبر تحالفها مع ميليشيات وحدات الشعب وقسد اللذين تعهدت تركيا بمهمة القضاء على دويلتهم المسماة «روج آفا» التي أعلنوها في تلك المنطقة.
تسعى أنقرة منذ عامين لقضم أراض في طريقها نحو الشمال السوري وهي في الوقت الراهن تنشر قواتها في محافظة إدلب، ومن الممكن أن يستمرالتحالف الهش مع تركيا العضو بحلف الناتو لأمد طويل، كما أن الرئيس التركي رجب أردوغان يهدد ويتوعد بتوسيع التقدم التركي شرق نهر الفرات بهدف تقطيع أوصال الدويلة الكردية، وهذا يعني القضاء على أحلام»روج أفا» التي كان إنشاؤها يراود قسد وميليشيات وحدات حماية الشعب التي تحالفت مع الولايات المتحدة إبان حصار عين العرب عام 2014، حيث أمدتهم واشنطن بالسلاح والدعم الجوي.
تلقت قسد دعما أميركيا واسعا مكنها من السيطرة على مساحات شاسعة من الشمال الشرقي لسورية، التي يشكل العرب ما ينوف عن نصف سكانها وهم يرفضون حكم هذه الميليشيات، لذلك بتقديرنا لن يكتب للقوات الأميركية الاستمرار بالبقاء في هذا المكان لأنها ستكون مستهدفة من قبل أولئك السكان، ولا شك بأن إطالة أمد الوجود الأميركي سيفضي إلى كارثة على غرار ما جرى للقوات الأميركية البرية في لبنان ما بين عامي 1982-1984 وفي الصومال بين عامي 1992-1995 وفي العراق من عام 2003 إلى 2011، وفي هذا الصدد قال أحد المراقبين المتابعين لشؤون الشرق الأوسط «ثمة أشخاص في الشرق الأوسط على قناعة بأن السبيل الوحيد للتخلص من الأميركيين هو أن يصار إلى قتل العديد منهم».
لا شك بأن توجيه الإدانة إلى إيران باعتبارها مصدراً للشر أمر يدل على قصر نظر لدى كل من ترامب وبولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو والسفيرة نيكي هيلي التي في معرض إجابتها على سؤال حول مجزرة الأهواز قالت «على إيران النظر في المرآة»،أما بولتون فقد سبق له وأن قطع وعدا في العام الماضي للمعارضة الإيرانية الخارجية (وهي جماعة من مجاهدي خلق)بأنه ما أن يحل عام 2019 حتى يتولون زمام السلطة في إيران، وفي هذا الأسبوع توعد طهران بـ»مواجهة الجحيم» في حال وقوفها في وجه الولايات المتحدة الأميركية.
إن تلك الخطابات الممزوجة بالمزيد من التهديد والوعيد ما هي إلا استعراض أهوج للعضلات صدر عن بعض الحمقى وصبيان السياسة. لكن لا بد من أخذه على محمل الجد كونه يماثل ما سبق الترويج له قبيل التدخلات الأميركية في دول الشرق الأوسط، إذ في البداية يجري تشويه سمعة الدولة المستهدفة والاستخفاف بقدراتها في ذات الوقت. لكننا نرى بأنه من السذاجة بمكان القبول والقناعة بما تقوله مجموعات منفية لها مصالح ذاتية تروّج بأن تدخل الولايات المتحدة سيكون سهلاً وممهداً له، كما يجب ألا يغيب عن ذهن صناع السياسة الأميركية أن إسرائيل والسعودية والإمارات تسعى لزج الولايات المتحدة بمحاربة إيران خدمة لمآربها الخاصة، في الحين الذي تحاول كل منها الابتعاد قدر المستطاع عن الدخول في تلك الصراعات.
منذ سبعينيات القرن الماضي تعرضت سمعة الرؤساء الاميركيين (باستثناء جورج بوش الأب) إلى الانتقاد جراء جر بلادهم إلى صراعات في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا. إذ ارتبط اسم جيمي كارتر بإيران، ودونالد ريغان بلبنان وإيران غيت، أما بيل كلينتون فقد تشوهت سمعته نتيجة لما جرى في الصومال، وجورج بوش الأبن بحرب افغانستان والعراق، وارتبط اسم باراك أوباما بالتدخل في سورية وليبيا. ولا ريب بأنه سيكون من الأمور المستغربة أن يُستثنى دونالد ترامب من تلك القاعدة التي نهجها أغلب الرؤساء الذين سبقوه.