تمنّى أن تختفي الحافلة، ويختفي الركاب، ويبقى وحيداً معها، عندها ربما يتجرأ على البوح لها بمشاعره التي حرقته لشهور عديدة، تتصاعد وتيرة ضخ العرق من مساماته كلّها، إلى أن ينتهي من كل مناديله الورقيّة. كلّ ما في الأمر أنه انتظر فرصة قربها منه ليبثها عواطفه التي نمت على حافة نافذة مواربة لا تسمح بمرور الضوء، باستثناء نور وجهها، وهي تنشر غسيلها على حبل من الحب امتد إلى عمق العمق لدفء قلبه.
ما أن رآها تستقل الحافلة التي يركبها حتى بدأ صراعه مع تردده (هي الآن أمامي، يمكنني أن المس كتفها، لا يمكن تجاهل عطرها. فهو يقتحم أعصابي، عليَّ أن ادعوها لتجلس بجانبي المكان خال، والطريق طويلة هناك دائماً متسع من الوقت للبوح، لكن لست متأكداً من بقاء صوتي على قيد الكلام، هل الخجل يأكل الحنجرة، أم هو الجبن أم أنَ لهفة اللقاء قد تزيح كل تردد، حتى البوح بمشاعر الحب تحتاج إلى شجاعة). حسم أمره، واستجمع كل ما أوتي من شجاعة، عليه أن يواجه نفسه كي ينتصر على علّته. لكن ضربات النبض تتسارع، وتتسارع معه شدة الشهيق والزفير، وكأنه يركض خوفاً من نفسه التي تلاحقه. عليه أن يهدأ قليلاً، أخذت العيون تلسعه إلا هي مسافرة بخيالها بعالم لا يعرفه، ولا يعرف بما تفكر، هل سمعت نبضه؟ أيقظه من شروده صوت السائق (الأجرة يا شباب).
وبدأت همهمات الركاب بالاعتراض على أجرة مضاعفة طلبها السائق.
تفقّد محفظته، ولام نفسه كيف يفكر بحبيبة مع أنّ محفظته فارغة إلا من مال قليل يرضي السائق الجشع. كيف يبث لها لواعج روحه، وهو لا يستطيع دفع الأجرة بدلاً عنها، شعر بالإهانة، وعادت وصية أبيه ترنُّ بأذنه (إياك أن تصطحبَ فتاة ومحفظتك فارغة. الرجل لا يعيبه إلا جيبه).
بدأ تنفسه ينتظم، وعاد الهدوء إلى نفسه، وزال الخجل والتردد، وبدا شيء ٌمن الارتياح على ملامحه، وأخذت فكرة المواجهة تتلاشى، وشعر بالخلاص المريح. وهكذا انتهت معركته مع ذاته، وتحولت محفظته الفارغة الغارقة بعرق كفيّه إلى طوق نجاة يحمله إلى شاطئ الهزيمة.