تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


العالم الحقيقي ونظرية الأشكال الأفلاطونية

ملحق ثقافي
2018/10/2
حاتم حميد محسن

قد يبدو من الصعب لغير الفيلسوف فهم نظرية الأشكال لأفلاطون. ولكن لو وضعنا هذه النظرية ضمن سياقها التاريخي والثقافي فإنها ستكون ذات معنى.

ولد أفلاطون في سنة 427 أو 428 قبل الميلاد في أثينا، حينما كانت الديمقراطية الأثينية في أوجها. هو ينتسب إلى عائلة ثرية وأرستقراطية. كان أفلاطون منخرطاً في سياسة أثينا، ولهذا هو لم يكن غريباً عن السياسة. هو كان أيضاً مؤسسا لأكاديمية أثينا ومدرستها الفلسفية الأولى والتي يمكن اعتبارها أول جامعة غربية في العالم. توفي أفلاطون بين عامي 347 و 348 قبل الميلاد.‏‏

فلسفياً، كان أفلاطون قد تأثر بثقافة الشك وخاصة شك أستاذه سقراط الذي كان نجماً في حوارات أفلاطون. الشيء الذي اتفق عليه العديد من فلاسفة اليونان القدماء، هو أننا نعيش في عالم يصعب اعتباره مصدراً للمعرفة الحقيقية الثابتة والأبدية. العالم يتغير باستمرار، تبدّل المواسم تعكس هذا التغيير. لا شيء دائم أبداً: البنايات تتحطم، الناس، الحيوانات، الأشجار تعيش ثم تموت. حتى الحاضر مخادع: أحاسيسنا في البصر واللمس والذوق تخدعنا من وقت إلى آخر. ما يبدو ماءً في الصحراء هو في الحقيقة سراباً، وما نظنه حلواً في وقت ما، قد يبدو مراً في وقت آخر. هيراقليطس الذي سبق سقراط قال إننا يستحيل علينا عبور النهر مرتين.‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

جادل أفلاطون في حواراته السقراطية، أنه وبسبب كون العالم المادي متغير، فهو أيضاً غير موثوق به. لكن أفلاطون اعتقد أيضاً أن ذلك ليس كل القصة. وراء ما يبدو من هذا العالم غير الموثوق هناك عالم الدوام والموثوقية. أفلاطون يسمي هذا العالم الأكثر واقعية (لأنه دائم) يسميه عالم الأشكال أو الأفكار. ولكن ما هي الفكرة الأفلاطونية أو الشكل الأفلاطوني؟‏‏

لنأخذ على سبيل المثال المثلث التام المتساوي الأضلاع، كما يوصف في الرياضيات. هذا المثلث هو وصف لشكل أو فكرة المثلث. يقول أفلاطون إن هذا الشكل يوجد في حالة مجردة ومستقلة. لو نظرنا في فكرة المثلث التام، وحاولنا أخذ قلم وورقة لنرسمه، فإن محاولاتنا بالطبع لن تنجح تماماً.‏‏

أفلاطون يقول إن محاولات الناس لإعادة خلق الشكل، ستكون نسخة باهتة للفكرة التامة تماماً، مثلما هو كل شيء في هذا العالم عبارة عن تجسيد غير تام لشكله التام. فكرة أو شكل المثلث والرسم الذي نقوم به هو طريقة لمقارنة التام مع غير التام. مدى جودة رسمنا تعتمد على مقدرتنا في تمييز شكل المثلث. وعلى الرغم من أن لا أحد على الإطلاق رأى مثلثاً تاماً، لكن أفلاطون لا يعتبر هذه مشكلة. لو استطعنا تصور فكرة أو شكل المثلث التام في ذهننا، عندئذ يجب أن توجد فكرة المثلث.‏‏

الأشكال لا تقتصر فقط على الهندسة. طبقاً لأفلاطون، لكل خاصية أو شيء قابل للتصور هناك شكل مقابل لهما، أي، هناك مثال تام لذلك الشيء أو الخاصية. القائمة لا حصر لها، حيث تشمل الشجرة، البيت، الجبل، الرجل، المرأة، السفينة، الغيوم، الحصان، الكلب، الطاولة والكرسي جميعها أمثلة عن الأفكار المجردة التامة الموجودة بشكل مستقل.‏‏

يقول أفلاطون إن المعرفة الحقيقية والموثوقة تستقر فقط لدى أولئك الذين يستطيعون فهم الواقع الحقيقي الكامن خلف عالم التجربة اليومية. لكي نتصور عالم الأشكال، يجب علينا أن نباشر تعليماً صعباً. هذا أيضاً ينطبق على الملوك-الفلاسفة، الذين يتوجب عليهم تصور شكل الصلاح لكي يكونوا حكاماً ذوي اطلاع جيد. يجب علينا أن نتعلم كيفية استدعاء هذه المعرفة بالأشكال طالما هي متجسدة سلفاً في أذهاننا، بسبب أن روحنا كما يبدو كانت تقيم في عالم الأشكال قبل ولادتنا. لو أن شخصاً ما يريد عمل بناء، مثلاً، سيكون مطلوب منه استدعاء معرفة أشكال البناء أو المنزل أو الطابوق. لا يمكن التصديق بفكرة أن هذا الفرد لا يمتلك أي فكرة عن تصميم البناء. على هذا الأساس، إذا كنت لا تستطيع تذكّر المعرفة الضرورية، عندئذ أنت لا تصلح أبداً لتكون بنّاءً أو ملكاً. لا يصلح كل شخص ليكون ملكاً، مثلما لا يصلح كل شخص للرياضيات. غالبية الناس لا يمكن تعليمهم حول طبيعة الأشكال، لأن الأشكال لا يمكن اكتشافها من خلال التعليم، وإنما يتم فقط استذكارها.‏‏

لكي يوضح العلاقة مع عالم الأشكال، يستخدم أفلاطون في الجمهورية مثالاً عن الناس الذين يمضون كل حياتهم في كهف. كل ما يشاهدونه هو ظلال على الجدران تنعكس من مواقد النار. بالمقارنة مع عالم الأشكال، تكون الأحداث والأشياء الفيزيقية الواقعية هي مجرد ظلال. أفلاطون أيضاً يستخدم مقارنة الكهف كبيان سياسي. الناس الذين يجب أن يحكموا هم فقط الذين لديهم المقدرة للخروج إلى ضوء الشمس ورؤية (استذكار) الواقع الحقيقي (الأشكال). من الواضح أن أفلاطون لم يكن معجباً بديمقراطية أثينا. لا شك أن هذه الخلفية الأرستقراطية وميول السياسة الأثينية ساهمت بهذه الرؤية، خاصة عندما صوّت الناس على إعدام أستاذه سقراط.‏‏

كان أفلاطون واثقاً من أن الناس الخاصين هم وحدهم الملائمون للحكم. ولكن منْ هم الناس الخاصون الذين يستطيعون تمييز الأشكال؟ بالنسبة إلى أفلاطون، الجواب بصراحة هو أن الحاكم المثالي هو الملك-الفيلسوف، لأن الفلاسفة هم وحدهم لديهم القدرة على تمييز الأشكال.‏‏

يستمر أفلاطون في الحديث ليقول إنه فقط عندما يأتي الفرد (الفيلسوف) إلى السلطة، ستصبح هناك فرصة لمواطني الدولة بالخروج من الكهف ورؤية ضوء الشمس.‏‏

اعتقد أفلاطون بالطبيعة الكارثية للديمقراطية، فهي تقود فقط للاستبداد والسيطرة. إنها تدفع الدول للدخول في حروب لمصلحة الطبقة الحاكمة. ومهما قيل عن أفلاطون ومناهضته للديمقراطية، لكن الثابت أنه اعتُبر من اكثر الناس حكمة حتى الآن، أعماله وخاصة الجمهورية كانت من العمق لدرجة رسم اتجاه الفكر والثقافة الغربية على مدى ألفي عام. لقد قيل إن أي فلسفة بعد أفلاطون، هي مجرد هوامش على أعماله الكبيرة.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية