على هذا الأساس، تأتي أهمية العاملين في مجال الحِرف والصناعات والمشغولات اليدويّة التراثيّة وضرورة رعايتهم والمحافظة على أيديهم التي يجب أن تُلف بالحرير.
إن تراكم الخبرات الفنيّة العمليّة والنظرية لدى الحرفيين والصناع البارعين، تُعتبر كنزاً من كنوز الأمة والوطن، ليس من الضروري المحافظة عليها وحمايتها وتطويرها فحسب، بل من الأهمية بمكان، حفظ هذه الخبرات وإيجاد شتى السبل لاستمرارها من جيل إلى جيل، ذلك لأن هذا «الذهب العتيق» قد لا يتكرر أو يُعوّض بنفس الخصوصيّة والنكهة.
إن المخضرمين من الصناع والحرفيين والفنانين الشعبيين البارعين الذين أمضوا العمر في تكوين هذه الخبرات وتكريسها وتجميعها بالممارسة، أشبه بالذهب الذي يزداد قيمةً وأهميةً وفرادةً كلما أوغل الزمن عليه وتعاقبت السنون.
لقد فطنت العديد من الدول إلى هذه الناحية، فأولتها العناية والرعاية اللازمتين والضروريتين، من خلال جملة من الإجراءات منها: إنشاء ورش أو معاهد صغيرة لهؤلاء المبدعين من معلمي الحرف والصناعات والمشغولات والفنون التطبيقيّة التقليديّة، وإلحاق مجموعة من الشباب الذين أبدوا استعداداً بيّناً لتمثل هذه الخبرات وإدراك أسرارها وإتقان التعامل معها والمضي بها قدماً نحو المستقبل، محققين بذلك، عملية التواصل مع تراث الأمة واستمراره وصونه من الضياع والتلاشي بضياع حامليه ورحيلهم، وبالتالي تطويره والإضافة إليه بما يتلاءم وخواصه التي تحتضن قيم الأمة، وتعكس أفكارها ومعتقداتها وعاداتها الأصيلة والنبيلة، والاستفادة في نفس الوقت، من المعطيات العلميّة والتكنولوجيّة الجديدة، إنما دون أن يؤثر ذلك، على خواصها الأصيلة، وقيمها الرفيعة الحاضنة لها والتي ولدت مع الأصابع الأولى التي ابتكرتها، وتكرست بتعاقب خبرات الأجيال المتلاحقة التي اشتغلت عليها وتابعتها، دون المساس بأصولها.
مقصد وعنوان
من جانبٍ أخر، تشكل هذه المشغولات والحرف والصناعات اليدوية التقليديّة، المقصد الأبرز للسياح، فهي العنوان الرئيس الذي يذكرهم بالبلاد التي زاروها وأمضوا فيها بضعة أيام أو شهور أو سنوات، لذلك يحرصون على البحث عنها واقتنائها وحملها، باعتزاز وسعادة، إلى أوطانهم، لتأخذ مكانها اللائق بها، في منازلهم ومكاتبهم، أو يقومون بإهدائها إلى معارفهم وأصدقائهم. على هذا الأساس، نجد في كل مدينة وبلدة، محال وأسواق مكرسة بكاملها، لمثل هذه الصناعات والحرف، يؤمها السياح وأبناء البلد معاً. ذلك لأن هذه المشغولات التي تُشكل تذكاراً للسائح، يحيله كلما وقعت عيناه عليه، إلى الأيام التي أمضاها في البلد الذي حمل منه هذا التذكار، وتُشكّل في الوقت نفسه، لابن البلد، رمزاً تراثياً، وإشارة إلى الزمن الجميل الهارب بعمره وحياته وسعاداته النقيّة والحقيقيّة في عب الأيام والشهور والسنين، وقد لاحظتُ أن اهتمام الأجانب بهذه المشغولات، وحرصهم على اقتنائها في بيوتهم خلال مكوثهم في بلداننا العربية لسنوات، بحكم اشتغالهم في السفارات أو المعاهد والمراكز والشركات العائدة لبلدانهم، شَكّل أحد العوامل التي دفعت المواطن العربي، للاهتمام بها ونقلها إلى بيته، خاصة الشريحة التي تتعامل مع الأجنبي المقيم في البلد كالفنانين والمتزوجين من أجنبيات، خلال وجودهم في الخارج، للدراسة أو التجارة أو العمل.
والأمر نفسه يتكرر مع العربي الذي يزور البلدان الأجنبية ويمكث فيها ردحاً من الزمن، إذ يحرص هو الآخر، على البحث عن المشغولات التي تمثل روح البلد وتعكس تراث شعبه، من أجل اقتنائها وحملها معه إلى بلده، لنفس الغاية والهدف.
خطر الميكنة
نتيجة للطلب المتزايد، على مثل هذه الحِرف والمصنوعات والفنون التقليديّة، تلجأ بعض الجهات المنتجة لها، إلى ميكنتها، بهدف تلبية حاجة السوق المتصاعدة إليها، ما قد يؤثر على نوعيتها، ويعطب جانباً من أصالتها وقيمها وخصائصها التي تجذب متذوقها إليها، ذلك لأن الأصابع الفولاذية التي تحل محل الأصابع الإنسانيّة، غالباً ما تقضم الحس التعبيري فيها، وتقصي عفويتها، وتلغي جوانب من جمالياتها المعجونة بأنفاس صانعها، وتوقّد أصابعه بالحياة المتلونّة والمرتبطة بحالته الشعوريّة أثناء إنجازها، ثم إن الميكنة، تفرز نسخاً باردة ومكررة، من العمل الفني يشبه إلى حد بعيد، الصورة الضوئيّة التي تؤخذ للوحة زيتيّة أو مائيّة، أو لمنظر طبيعي، أو لمزهرية، أو صحن فواكه... وما شابه، ثم تُعمم عبر آلاف (وربما ملايين) النسخ، بوساطة آلة الطبع المتطورة التي باتت لدقتها، تُعطي نسخاً أكثر جمالاً وأناقة وإدهاشاً، من المشهد الذي رصدته في الواقع، لكن كونها مستنسخة، تفقد أهميتها وقيمتها الماديّة والتعبيريّة، ذلك لأن العمل الفني الوحيد النسخة، والمنجز بأنامل فنان أو حرفي، أشبه ما يكون برصيد مادي وتعبيري ضخم، تتنامى قيمته وتزداد، كلما أوغل في العتاقة والقِدم، وبإمكان صاحبه أن يصرفه متى يشاء، بأضعاف الثمن الذي اشتراه به، والأمثلة على ذلك، أكثر من أن تُحصى في حياتنا المعاصرة، بدليل الأسعار الخياليّة التي تحققها الأعمال الفنية والحرفيّة، في المزادات العالميّة.
الأميّة البصريّة
نتيجة لسطوة الأميّة البصرية على عيون نسبة كبيرة من العرب (بما فيهم المتعلم، والمثقف، وحتى بعض المشتغلين في حقول الفنون البصريّة نفسها) فإن قدرتهم على التعاطي مع هذا اللون من الثقافة الراقيّة والجديدة عليهم نسبياً، يبدو محدوداً وضئيلاً، بدليل غياب الأثر الفني التشكيلي، أو الأثر الحرفي المتميز والراقي، من بيوتهم ومكاتبهم وأماكن عملهم المختلفة، لصالح العمل الفني التجاري المنسوخ، والحاضن لجماليات عادية ومباشرة (المناظر الطبيعيّة الخلابة، الطبيعة الصامتة، الزهور، الوجوه) علماً أن ما يصرفونه من أموال على هذه الأعمال التي تفقد قيمتها الماديّة فور شرائها، حيث تتحول إلى مجرد ورق (أو قماش مطبوع) وإطار، يكفي لشراء عمل فني أصيل ووحيد النسخة، يتحول إلى رصيد مادي وفني وجمالي، متعاظم القيمة، كلما مضى به الزمن بعيداً، وبإمكان مالك هذا الرصيد صرفه متى يشاء، بأضعاف ثمنه!!
الفن والحرفة
تعتبر مدرسة (الباوهاوس) أي (بيت البناء) التي أسسها المهندس الألماني (غروبيوس) 1919 في مدينة (فايمار) بالقرب من مدينة (لايبزيغ) الألمانية، أول اتجاه فني أكاديمي يزاوج بين (الفن) و(الحرفة) محطماً بذلك الجدران التي أقامها المبدعون الذين يشتغلون على اللغات التعبيريّة الرفيعة، كالفنانين التشكيليين، والموسيقيين، والشعراء، والأدباء، بين هذين النشاطين الإنسانيين، وهذا الموقف الإقصائي المتزمت والاستخفافي بالحِرف والمشغولات اليدويّة، عادوا وكرروه، تجاه الفن الجديد الذي ولد مع اختراع الكاميرا عام 1839 وهو التصوير الضوئي الذي نعتوه بالفن الآلي والبارد.
الحجج والأسباب التي ساقها هؤلاء، لتبرير دونيّة الحرفة والصورة الضوئيّة مقارنةً بالفنون التي يجترحونها، تتلخص بأن ما ينتجونه يتسم بالابتكار والتجديد، بينما الحرفة ثابتة، وجامدة، ومكررة، وتتوجه لإرضاء حاجة مادية بحتة، لدى الإنسان، أما فنونهم فتتوجه لروحه وأحاسيسه وعقله.
حراس التراث
ما هو مؤكد، أن الفنون الإبداعيّة الرفيعة كالتشكيل والموسيقا والشعر، لا تزال نخبويّة في عالمنا العربي، ومتلقوها قلة مقارنة بمتلقي الحِرف والفنون والصناعات اليدوّية الذين يشكّلون قاعدة شعبية واسعة، إلى جانب المتلقين الأجانب الزائرين لبلداننا، لأكثر من سبب، والعاشقين لهذه الحِرف التي تمثل تراث الأمة الحقيقي المعيش في الواقع: في الحياة الشعبيّة التي تشكل رحم التراث الحنون، وفي سلوك الإنسان الشعبي وعاداته وتقاليده وأفكاره وعمارته ولباسه وفنونه الشعبية بعامة.
من هنا تحديداً، تأتي أهمية الحرفيين المنتجين لها، لا سيما لدى غالبية الناس، خصوصاً المتحدرين من البيئات الشعبيّة الذي وعوا على الدنيا، ومثل هذه الحِرف والفنون بين ظهرانيهم: في بيوتهم أو بيوت جيرانهم، لغايات استعماليّة وجماليّة تزيينيّة.
من هنا، فإن الحياة الشعبيّة العربيّة لم تضحِ بالتراث، بل هي التي احتضنته، وكانت رحم استمراره وتطوره، وكان المشتغلون فيه حراسه ونسغ تجدده، وكانت هذه المشغولات ولا تزال، نتاج حر وعفوي لأرواحهم وبيئاتهم، واختزال صادق لجوانب هامة من تراث شعوبهم وقيمها وتقاليدها وتاريخها، وهي في خلاصتها، فن حقيقي متماهٍ بالحرفة، تقوده الحاجة أحياناً، ويقود هو الحاجة، أحياناً أخرى.