تعقد الوضع في الساحل الفينيقي من جراء الصراع الدائم على السلطة في روما. حقول من المعارك وحلبات من الصراعات كانت تدور في إمارة سوريا.
عَبَر القائد العسكري يوليا تسيزار «102 - 44 قبل الميلاد» الأراضي الفينيقية أثناء خوضه الحرب ضد بومبي، وصولاً حتى سوريا. وأثناء حملته هذه استغل مزايا المدن الفينيقية.
لاحقاً أهدى أنطونيو - عضو حكومة الترويكا في روما - عدداً من المدن الفينيقية لعشيقته ملكة مصر كليوباترا. وعلى شرف هذا الحدث صدرت في مدينة بيريت عملة معدنية رسمت عليها صورتها.
وكانت نتيجة الصراع بين أنطونيو ومنافسه اللاحق أوكتافيان على العرش لصالح الأخير. وفي الجوهر، ابتداءً من أوكتافيان الذي حصل على لقب «أوغست» حصلت المدن الفينيقية في النهاية على السعادة والأمان وسلام مديد. وهكذا استمرت الحياة فيها خلال سنين طويلة، قبل أن تباشر روما حربها في الشرق ضد إيران وبالميرا «تدمر» وغيرها من الدول، لكن هذا كان بعيداً عن فينيقيا كثيرة المعاناة.
ساد السلام في فينيقيا واستمر حتى عام 614 ميلادي، الأمر الذي منح اقتصادها وتجارتها وثقافتها دفعات قوية إلى الأمام.
كتب. ك. بيرنهاردت عن ذلك قائلاً: «افتتح التجار الفينيقيون حلقاتهم التجارية في روما والموانئ الإيطالية. وظهر في العاصمة حي فينيقي كبير جميل، ما تزال تشاهد آثاره إلى يومنا هذا، وفيه شارع كومبانسك موجود إلى يومنا هذا. وكان في نابولي وميزيني سكان فينيقيون كثيرو العدد، أما الأعداد الكبيرة منهم فقطنت الموانئ الكبيرة كأوستيا وبوتيول. وحافظ مجلس شيوخ مدينة تير على تنفيذ تعليماته بوجوب دفع عشرة آلاف دينار مقابل استخدام المخازن التجارية وغيرها من المحلات تنفيذاً للقرار الذي صدر عام 174 ميلادي».
ومع ازدياد التوسع الاقتصادي للمدن الفينيقية ازداد تأثيرها الثقافي، ووصلت أوج ذلك في سنوات حكم السلالة السورية اللبنانية «193 - 235 ميلادي». وكان سبيترس سيفر أول إمبراطور من هذه السلالة، الذي يعود أصله إلى المستعمرة الفينيقية القديمة ليبتيس الواقعة في شمال أفريقيا، بينما زوجته جوليا دومنا فكانت ذات منشأ سوري «من حمص». وأسرتاهما كانتا تقيمان علاقات مع مدينة آركا الواقعة إلى الشمال من لبنان، حيث ولد الإسكندر سيفر الأخير من سلالة هذه العائلة.
استرعت جنوب سوريا ولبنان - بما أنها وطن الأباطرة والآلهة التي يعترفون بها، والتي لاقت انتشاراً واسعاً في الإمبراطورية - اهتمام الرومان - السواح، وخاصة بسبب المتعة والاهتمام، التي أثارتها الصروح الثقافية العظيمة. تعتبر أطلال الأبنية العامة بالنسبة إلينا اليوم شاهداً بارزاً على ازدهار فينيقيا أثناء خضوعها لنير روما. والتي لم تستطع في المرحلة الهيلينية الصعبة الوصول إلى التجسيد الكامل لذاتها وتحقق الأنا: الازدحام المحزن للمدن الشرقية القديمة، الذي تم التخلص منه. ولم يتعلق الأمن الخارجي للمدينة بما تملكه من أسوار وأبراج. لكن تم تأمينه بما وجد من طرق بعيدة محصنة ومحروسة وبروج الحراسة وتحصينات الحدود الرومانية.
بنوا حول المدينة حدائق وفيلات. وبفضل الطرق الحسنة والمتينة تحسنت المواصلات. وفي المقام الأول تم توسيع الطريق الساحلي حتى أصبح عبارة عن أوتوستراد يصل فلسطين بشمال سوريا. وحتى في أكثر قطاعاته خطراً، التي كان يهيمن عليها قطاع الطرق، عملت الفرق الرومانية على فتح طريق لانتقال البضائع ذهاباً وإياباً.
أما النهوض الحقيقي فتوصلت إليه بيريت التي ظلت حتى تلك الآونة خلف ظلال جارتيها بيبلوس وصيدون. أما مارك اغريب، صهر الإمبراطور أوغست، الذي انتصر في معركة بالقرب من اكتسيا، فحل في هذه المنطقة في عام 15 قبل الميلاد تقريباً مع مناصريه محاربي الفرقتين الخامسة والسابعة. وتم شراء الأراضي اللازمة للمدينة، التي منذ لحظة تدميرها من قبل ديودوت تريفون «140 قبل الميلاد» الذي ادعى أحقيته بالعرش، كانت لا تزال عبارة عن أنقاض. ومن جديد أصبحت بيريت بعد إعادة بنائها، محررة من ضرائب الأرض والأفراد وذلك حسب قانون المستعمرات الإيطالي وأصبحت تسمى باسم ابنه أوغست كولوميا يوليا.
وسرعان ما أصبحت بيريت ميناء عسكرياً ونقطة انطلاق لأقصر طريق يوصل بدمشق خلال لبنان والأكثر أهلية لتصبح مركزاً للمدن الساحلية. وهذا ما أدى إلى تركيز اهتمام الرومان بفينيقيا. حقاً، إن أطلالها مدفونة اليوم تحت بيروت الحديثة، لكن عندما بدأت أعمال البناء في المدينة اكتشفوا آثار هذه المستعمرة التي كانت في طور الازدهار يوليا أوغست - بيريت».
وما يتعلق بمدينة تير، نستطيع القول إنها استمرت بالتطور والازدهار أثناء السيطرة الرومانية. وخطت تير الخطوة الأعظم إلى الأمام بعد أن انحازت إلى صف سيبتيمي سيفر، الذي وقف ضده غ. بيتسيني وهو من دعاة أحقيته بالعرش الروماني. وطبق سيبتيمي سيفر بعد انتصاره على عدوه قوانين جديدة في تير تتضمن إعطاءها مزيداً من الحقوق وهو ما سمي بقانون المستعمرات الرومانية.
وهكذا، فبعد أن احتل الرومان في عام 64 قبل الميلاد فينيقيا وفلسطين وسوريا، أقدموا على توحيدها في إقليم واحد وسموها - الولاية السورية.
ومنذ تلك الآونة مروراً بستمائة عام خضع إقليم سوريا للرومان وبعدها للبيزنطيين. ومنذ منتصف المئة الثالثة لعصرنا هذا بدأ القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية ينهار نتيجة للحروب الأهلية والضعف الاقتصادي وشح البضائع. وفي عام 330 سقطت روما وحول الإمبراطور قسطنطين عاصمته من روما إلى بيزنطا وشكل ما سمي بالإمبراطورية البيزنطية. وأصبحت فينيقيا جزءاً من هذه الإمبراطورية.
في مرحلة الحكمين الروماني والبيزنطي، انتشرت الثقافة الإغريقية - الرومانية بشكل واسع في فينيقيا. واختفت اللغة الفينيقية عملياً. وبُدِّلت هذه اللغة باللغتين الآرامية والإغريقية بشكل رئيس. لكن الفينيقيين ظلوا اثنولوجياً ينتمون إلى الشعوب السامية. وفي هذه المرحلة الرومانية ظهرت جذور المسيحية. وبالنتيجة حلت محل مختلف الهرطقات التي عاشت في هذه المنطقة، الأمر الذي أضعف الإمبراطورية الرومانية واستنزفها وجعلها سهلة المنال. ومنذ عام «633 حتى 640 ميلادي» استطاع العرب تحطيم الجيوش البيزنطية وفتح كامل إقليم سوريا.
منذ زمن الاحتلال الروماني، حتى وصول القوات العربية إلى أراضي فينيقيا، نسي الفينيقيون لغتهم وانتقلوا للتحدث باللهجة الغربية للغة الآرامية «السورية» وفقدوا مشاعرهم الاثنية.