وهو الوثيقة الأكثر صدقاً التي تبيّن لنا ما كان عند القوم، والشعراء ألسنة الزمان، وقد قيل قديماً: لولا أشعار النقائض لضاع كثير من تاريخ العرب وأيّامهم.
والحديث في الكرم والضيافة يعني الحديث في البيئة خالقة القيم والأعراف، وأخلاق الضيافة درس لقنته الطبيعة للعربيّ في بيئته القاسية.
لقنته أنّه مهما كان فقيراً، عليه أن يقدّم بعض ما عنده لمن يأتيه من ضيف قريب أو غريب، إنقاذاً لحياته من قسوة الحياة ومن شحّها.
يؤكد الدكتور نايف شقير بقوله: إن الضيافة والعرف عند العرب ثلاثةَ أيام وثلاثَ ليال، فإذا انتهت المدّة، سقط حقّ الضيافة من رقبة «المضيف»، ونظراً إلى ما للمعابد من حرمات، فقد عُدّ الوافدون عليها لزيارتها والتقرب لأصنامها ضيوفاً لها، وعدّوا الذين يعتدون عليهم خارجين عن العرف مارقين في مجتمعهم. فمن كان يفد إلى مكة يقال له «ضيف الله»، والحجّاج «ضيوف الكعبة»، فلا يجوز الاعتداء عليهم، وقد حافظ الإسلام على هذه السنّة الحسنة ودعا إليها، فقد جاء في الحديث النبويّ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».
مشيراً أن في شعر حاتم ضروباً من معاني الكرم والقيم التي يفاخر بها العربيّ، وفي شعره جماع ما يبحث المرء عنه من معانٍ يتطلّع إليها العربيّ حين يتّجه في حديثه صوب الكرم وإكرام الضيف، ونعتت الأجواد في جودهم وقراهم الضيوف، «بـمطعمي الطير» فلكثرة الطعام المهيّأ للضيوف، كانت الطيور تشارك في أكل الزاد، وهناك من يجود في أوقات الشدّة والحاجة بصورة خاصة. وعرف نفر من العرب بـ»مطاعيم الريح»، وذلك لأنّهم كانوا يطعمون إذا هبّت ريح الصَّبا، لأنّها لا تهبّ إلا في جدب، وأشهر هؤلاء عمّ أبي محجن الثقفيّ، ولبيدُ بن ربيعة العامريّ.
وبيّن الدكتور شقير قائلاً: انتشرت عادة إيقادُ النار في الظلام ليراها الغريب والمحتاج والجائع من مسافة بعيدة فيفد إليها، فيجد من يَقريه ويقدّم له ما يحتاج إليه من طعام. ويقال لها «نار القرى» و»نار الضيافة». وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة، لتكون أشهر. ويذكر أنّ حاتماً كان إذا أهلّ شهر رجب واشتدّ البرد وكلب الشتاء كان يقول لغلامه يسار: أوقد ناراً في بقاع من الأرض، لينظر إليها من أضل الطريق ليلاً فيقصد نحوه من يريد الضيافة من الناس، ويقول ابن المعتزّ:
وليل يودّ المصـطلون بناره
لو أنهم حتى الصباح وقودها
رفعت به ناري لمن يبتغي القرى
على شَرَف حتى أتاها وفودها
وأشار الدكتور نايف شقير بالقول: إن بعض أجواد العرب على نمط راقٍ من الكرم فلا يستسيغون الزاد إن أكلوه وحدهم، وتروى أبيات يطلب الشاعر فيها من زوجه أن تلتمس له من يشاركه في طعامه:
أيَا ابنةَ عبد اللَّه وابنةَ مالكٍ
ويا ابنةَ ذِي البُردَينِ والفَرسِ الوَردِ
إذا ما عملتِ الزَّادَ فالتمسي لهُ
أكيلاً فإني غيرُ آكِلهِ وَحْدِي
وإنِّي لَعبدُ الضَّيف ما دام ثاوياً
وما فيَّ إلاّ تلكَ من شـيـمة العَبدِ
وإكرام الضيف في رأس الفضائل التي يتنافس العرب فيها ويتفاضلون، فكان أحدهم يفاخر أنه غاية في الكرم، في حين يغلق الآخرون الأبواب في وجه الضيف، ولا يكون هذا إلا في السنين الصعبة، لذلك ذهب مُعَيّةُ بنُ الحُمام المرّيّ في رثاء أخيه إلى أنّ أخاه حياة تُرتجى للأضياف، ولا سيّما في الشتاء حين يقلّ الزاد، ويمنع النّاس ما عندهم مخافة الجوع:
نَعَيتُ حَيا الأَضيافِ في كُلِّ شَتوَةٍ
وَمِدرَهَ حَربٍ إِذ تُخافُ الزَلازِلُ
فالأرض تنتعش وتحيا بالمطر، وترى أثر ذلك فيها، كذلك فإنّ الضيف يتلقّى القرى ويحيا به، وذكر الكرم مقروناً بالحيا علامة بيّنة على قيمة إكرام الضيف، إذ كان الماء عالم الحياة الذي لا يدانيه في قيمته شيء أبداً.
والشتاء فصل التفاخر عند الكرماء، ففي أبيات أوردها صاحب الحماسة في باب الأضياف يصل البرد إلى منتهاه، والناس يلتجئون في خيامهم، أمّا كريم القوم فيسارع إلى استقبال ضيوفه التائهين المنهكين، يقول مرة بن محكان:
يا ربّة البيت قومي غير صاغرة
ضمّي إليك رحال القوم والقُرَبا
في ليلة من جمادى ذات أنديـة
لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غيرَ واحدة
حتى يلفّ على خيشـومـه الذنبا
ولا يأنف العربيّ من القول إنّه عبد للضيف، ويرى أنّ ذلك غاية الكرم، يقول المقنّع الكندي:
وإني لعبد الضيف ما دام نازلا
وما لي سواها خَلّة تشبه العبدا
ويقول الدكتور شقير: من حقّ الضيف أن تجتمع له أسباب الترحيب والمحبّة ليقبل على الطعام، ولا يتحرّج في ذلك، وكانوا يجعلون من ذلك حسن الضيافة والاستقبال وممازحة الضيف، وهذا كثير في شعر العرب، من ذلك قول أحدهم:
أضـاحك ضيفي قبل إنزال رحله
ويخصب عندي والمحلّ جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى
ولكنّما وجه الكريم خصيب
أما في الصيت الحسن يؤكد الدكتور نايف شقير أن العربيّ يهتمّ أن يُقال فيه الكلام الطيّب وأن يمدح، ولو كان بعض المديح مبالغاً فيه، ونحن حتّى يومنا هذا نلمس هذه الصفة، فقد يقدّم أحدهم لضيفه ما يثقل كاهله، يقدّمه وهو فرح طمعاً في أن يقال يوماً إنّه رجل كريم، ونجد مثلاً هذا المعنى في قول خفاف بن عبد القيس البرجمي:
والضَّـيْفَ أَكْرِمْهُ فإِنَّ مَبِيتَـه
حَـقٌّ ولا تَكُ لُعْنَةً للنُّزَّلِ
واعْلَمْ بأَنَّ الضَّيفَ مُخْبِرُ أَهْلِه
بمَبِيتِ لَيْلَتِه وإِنْ لم يُسْـأَلِ
فهذا تعبير يطابق في معناه القول الذي نتداوله بيننا «الضيف شاعر»
يطرح الدكتور شقير ملاحظات يمكن الوقوف عندها منها:
1- الكرم سلوك اجتماعيّ مرتبط ببيئة داعية إليه، وهو ابن الضرورة الطبيعيّة، وليس خلقاً أصيلاً في العربيّ كما يحلو لكثير منّا التغنّي.
2- المبالغة في الكرم فعلٌ يحرّض عليه المردودُ القريب للكرم، ولا يكون هذا إلاّ في حضرة سيّد قوم أو وجيه من وجهائهم أو شاعر، والمفاخرة بهذا الكرم –خارج هذه الحال- كلام غير صحيح، فالشاعر يتحدّث عن نحر إبله أو فرسه أو همّه بذبح ولده، وكلّ هذا وجه من وجوه الاستعراض، ليس الهدف منه إلاّ الصيت الحسن والمباهاة، وإنْ فعل هذا فإنّ الغاية منه الشهرة. وتروى حادثة عن حاتم أنّه نحر ثلاثة من الإبل لثلاثة شعراء التقاهم في الطريق وقد سألوه القرى، وحين تعجّبوا من فعلته قال: «قد رأيت وجوهاً مختلفة، وألواناً متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحدة؛ فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه، فقالوا فيه أشعاراً امتدحوه بها، وذكروا فضله» لذلك قال الرسول حين ذكرت ابنة حاتم كرم أبيها: «إن أباك خشبة من خشبات جهنم» لأنّ كرمه كان من أجل الجاه والشهرة.
3- البخلاء من العرب قوم لم يكونوا يملكون شيئاً يقدّمونه للضيف، أو هم شعراء هجّاؤون يعلمون أنّهم سيلاقون الترحيب حيث حلّوا مخافة ألسنتهم، أو هم أناس مطمئنّون أنّهم لن يخضعوا لتجربة الجوع والخوف، لأنّهم قوم عرفوا الاستقرار في حواضر ولديهم من المال ما يكفي ليدرأ عنهم غائلة الجوع والحاجة.
4- الشعر الشعبيّ في بيئتنا الذي يتغنّى فيه الشعراء بخصال حميدة على رأسها الكرم، هو شعر يعود في مفاهيمه وقيمه إلى عصر مضى يوم كان العرب يطعمون الضيف لحم الضأن حايل يشبعون الجوعان لو شحّت السنين، ولا يمتّ كثيراً لواقع الحال.
5- الشعر العربيّ وثيقة اجتماعيّة أرّخت لهذا السلوك، وتفنّن الشعراء في تزيين الأمر للنّاس إغراء لهم وتهويناً من ثقل الكرم، وقد قيل إنّ الكرم باب واسع من أبواب الشجاعة، ولا يقوى على الكرم إلاّ الشجعان. وقد شاعت بين النّاس قصّة ذلك الذي كان يطلب من الحاضرين شدّ وثاقه ثمّ الأخذ من ماله.
6- أجواد العرب نماذج إنسانيّة حفظها لنا الشعر والحكايات الشعبيّة في صورة يصعب الوصول إليها، بل إنّ الوصول إليها أمر مستحيل، ولكنّها القدوة الحسنة والنموذج المثال الذي يظلّ هدفاً للإنسان يسعى إليه ولا يستطيع الوصول إليه مهما سعى.