على ثنائيات متباينة، تطول تارة شكل ووسيلة وتقنية هذا المنجز وتارة أخرى، يتجاوز بحثها وعاء المنجز ليطول ما يحضنه من رموز ودلالات ومضامين فكريّة وفلسفيّة، تقودها للخوض من جديد، في ثنائيات أخرى، تثير من خلالها، أسئلة عميقة، تتجاوز العمل الفني وشكله ومضمونه، إلى قضايا شغلت فكر الإنسان، منذ وعى وجوده فوق هذه الأرض، ولا زالت موضع جدل مفتوح حتى اليوم، رغم حقول الوعي الهائلة، التي تنزه فيها هذا الفكر، ومنظومات اليقين العديدة، التي خرج بها!!
تداخل وتماه
محاولة الفنانة اليحيائي تحميل منجزها البصري، أبعاداً فلسفيّة عميقة، وإثارتها من خلاله، لتساؤلات شغلت بال الإنسانيّة وأرقته، ولا زالت تفعل فعلها فيه، كونه لم يقارب حالة اليقين المطلق بصحتها أو عدم صحتها، رغم التطور المذهل، لأدوات بحثه، وتجليات الوعي الكبيرة التي راكمها في عقله، هذه المحاولة اليحيائيّة، أو هذا التداخل والتماهي اللافت بين شخصية «الفنانة التشكيليّة» وشخصية «الباحثة الجماليّة» لدى الدكتورة فخرية اليحيائي، يبدو جلياً وواضحاً في بنية وشكل واتجاه منجزها البصري، وفي ما تثير حوله من آراء وإيضاحات وتحليلات يدور جلها حول جدليّة الشيء ونقيضه والمدركات الفلسفيّة الإيحائيّة، لوسائل تعبيرها البصريّة المتحولة والمتحركة دوماً، فهي إما مساحات «غرافيكيّة» عاشقة للظل والنور، والأسود والأبيض وتدرجاتهما من الرماديات، أو مساحات لونيّة بهية معجونة بالحس «الغرافيكي» الذي لا يغادر منجزها، سواء تحدر من صلب الخطوط «الرسوم» والألوان المنفذة باليد،
أو بوساطة العدسة «الصورة الضوئية» التي تتقن عملية إدارتها، والتصيد بها ومن خلالها، قطوعات مدروسة ومدهشة، لأشياء تصنعها الصدفة تارة، وتصنعها هي بنفسها، ثم تجمدها بوساطة العدسة، تارة أخرى. في الحالتين تبدو الفنانة اليحيائي مأخوذة بعوالم «الغرافيك» والتكوينات المدروسة في بعديها الشكلي والإيحائي الدلالي، وهذا الأخير، ينهل من اختصاصها الأكاديمي الرئيس والعالي «فلسفة الفن» بدليل الاتكاءات التي تستند إليها، أثناء عملية شرح وتوضيح أعمال معارضها، والعناوين اللافتة التي تطلقها عليها مثال ذلك معرضها الشخصي الأول الذي دعته «الرؤيا» ومعرضها الثاني «طريقة أخرى للرؤية» ومعرضها الرابع «الميتافيزيقا» ومعرض «ظل ونور» الذي تقدمه بالقول: «للظل والنور وللنور والظل، وكلاهما ليس نسخاً للخبرة المباشرة للعين، وليسا رموزاً لها، بل هما خيال صرف، يتشكل من قيم الفنان، فلا إبداع بدون خيال، ولا قيم تخلو من إبداع».
وتضيف مؤكدة رؤيتها الفلسفيّة الجدليّة لثنائية «الظل والنور» والأدوات والوسائل التي تتكئ عليهما لإنجازهما، وفي طليعتها «الخط» الذي تعرفت عليه منذ البداية، والمؤلف من نقاط مكثفة، وخطوط اتحدت لتبني مساحات، ومساحاتها «كما تقول» بقع سوداء وأخرى بيضاء، وخطوطها تتنفس وتعيش على سطوحها، وتتساءل: هل هي أنهار تمنعها من الاستمرار في رحلتها، أم طرقات متموجة تعوق سيرها الهادئ السريع، أم أنها كثبان رملية تغوص فيها كلما حاولت المسير؟! ثم تستدرك لتؤكد أنه مهما تك تلك الخطوط، هناك سوف تلتقي بأشخاص لهم مثل أفكارها، وهم أيضاً راغبون في الذهاب معها للحصول على المزيد من البحث عن نور، لكل نور دائماً ظل يتحد معه بانسجام، حتى وإن انفصلا، لوناً واتجاهاً، سيبقيان متحدين، لأن كلاً منهما يحتاج الآخر: ظل النور، ونور الظل .. هذه هي قصة الحياة؟!.
مسيرة حافلة وأفكار لافتة
درست الفنانة التشكيليّة والباحثة في علوم الفن «فخرية اليحيائي» التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس وتخرجت فيها عام 1995، وحصلت على ماجستير في الفنون من جامعة «ديمونت فورت» في بريطانيا عام 1998، وعلى دكتوراه في فلسفة الفنون الجميلة من نفس الجامعة عام 2004. تقوم بتدريس مادة الرسم والتصوير بجامعة السلطان قابوس، وهي عضو في عدة تجمعات فنيّة محليّة وعالميّة، وفي عدة لجان تحكيم، وقد أقامت عدة معارض فرديّة، ولها مشاركات كثيرة في المعارض الدوريّة والجماعيّة، لها أفكار لافتة في وسائل التعبير الفنيّة التي تستخدمها في إنجاز أعمالها، من ذلك ربطها بين اللون والموسيقا، وقناعتها أن النغمات الموسيقيّة يمكن أن تتدفق من الصور الملونة،
والعكس صحيح أيضاً، إذ ترى أن الألوان إيقاعات موسيقيّة لا تنتهي، وفي هذه النقطة تلتقي مع الفنان الروسي الأصل «فاسيلي كاندينسكي» الذي يُعتبر من أبرز رموز الحداثة في التشكيل العالمي المعاصر، وكان ينادي «مع جماعة الفارس الأزرق الألمانية التي تأسست عام 1911 وانفرط عقدها عام 1914» بضرورة التعبير عن الحقيقة الروحيّة في العمل الفني، كما ألح على المعاني والدلالات الروحيّة والرمزيّة للألوان، وأهمية الأسلوب العفوي الحسي، وأكد كثيراً الفنانة اليحعلى ضرورة الربط بين الفنون البصريّة وبين الموسيقا.
يائي، تضيف إلى ذلك، اعتقادها بأن اللغة تتضمن أيضاً حشداً من الملامس والأصوات والرموز والروائح، تصب جميعها في وحدة الحواس لديها، ممهدة لفيضان الخيال الذي يفضي بدوره إلى خلق وحدة لوحاتها التي تضمنها حشداً من النغمات الصفراء والذهبية الخافتة المتماهية بالظلال الزرقاء والبنفسجية، والمُولّدة لأصداء ألحان لا نهائيّة من الترنيمات المتدفقة جميعها من اللون، حاملة، أكثر من رمز ودلالة وجدليّة ثنائيّة: الموت والحياة، والانتصار والهزيمة، والنشاط والإحباط، ذلك أن طاقة اللون - برأيها - هائلة، غير محدودة، وتملك زخماً من التنوع والتعدد، والظاهر والمخفي.
والألوان هذه لدى الفنانة اليحيائي، ليست دوماً، بهيّة، زاهية، صريحة، ومشرقة، وإنما قد تخضعها في بعض تجاربها، إلى منظومة الأبيض والأسود وتدرجاتهما من الرماديات لامحدودة العدد والدرجة، والموزعة بإحساس «مايسترو» خبير، بأكثر من صيغة وشكل وملمس، يذهب إلى عوالم «الغرافيك» التي ظلت زمناً طويلاً حكراً على هذه المنظومة اللونية، وذلك قبل أن تقتحم عالم الألوان، مع تقانات قديمة وجديدة، كالطباعة بوساطة الخشب، والحجر «الليتوغراف» والشاشة الحريريّة.
تكوينات لونيّة
يُعتبر المعرض الشخصي السابع للفنانة فخرية اليحيائي الذي دعته «تكوينات لونيّة» وأقامته في مقر الجمعيّة العمانية للفنون التشكيليّة بالعاصمة «مسقط» عام 2008، من أبرز وأهم الأمثلة، على إيغالها وشغفها، بتحميل منجزها البصري «لاسيما ألوانه» أبعاداً دلاليّة فلسفيّة عميقة، رغم البساطة التوليفيّة والتقانيّة.. وحتى الإيحائية التي يوحي بها للمتلقي التي لا مندوحة أمامه، إذا أراد التقاط ما حمّلته من معانٍ وأفكار وأبعاد فكريّة، من الاتكاء على النص المكتوب المرافق، أي لا بد من الإطلالة على نصها البصري من نصها الفلسفي الغني بالإحالات والمراجع، ما يؤكد سعة اطلاعها وثقافتها في مجال علوم الفن والجمال وفلسفاته التي وُجدت في الأساس لإسعاف المتلقي في إدراك ماهيته الشكليّة والتعبيريّة، رغم أن البعض منها، زاد من إيهامه وغموضه، بل وحمّله ما ليس فيه، بهدف تقديم مسوغات لوجوده ووجود صاحبه الخاطئ والطارئ، في هذا الحقل من الإبداع!
نفذت الفنانة اليحيائي أعمال معرضها السابع بوساطة «الكاميرا» من مادة رئيسة هي أقمشة ملونة لامعة «حرير وساتان» وناشفة، سادة ومُعرّقة، حارة وباردة، منسجمة ومتضادة، مصقولة ومهشرة، نضدتها ضمن قطوعات مدروسة: لوناً وخطاً «رسماً» وحركة وأشكالاً وتموضعاً ودرجة وتكويناً، ما يؤكد قيامها ببحث مضنٍ ودؤوب، عن مادة أعمالها المناسبة والقادرة على أن تسعفها بالخروج بالمنجز البصري الذي تريده، ثم قامت بتشكيل هذه المادة، ومن ثم تجميدها بوساطة العدسة، محققة بذلك عملاً فنياً قصدياً ينتمي ظاهرياً إلى «الصورة الضوئيّة» لكنه بالخصائص التشكيليّة والتعبيريّة التي احتضنها، انتمى بقوة، للعمل التشكيلي، وحمل مقوماته الإبداعيّة الابتكاريّة كافة.
تكوين العمل الفني
ساقت الفنانة اليحيائي، جملة من المتكآت التي استندت إليها في عملية إنجازها تجربتها منها: أهمية اللون في بناء تكوين العمل الفني، باعتباره عنصراً أساساً في عمليات التكيف والبقاء في العديد من الفنون ومنها على سبيل المثال: التصوير الزيتي، التصوير الضوئي، السينما، المسرح «الديكور»، الأزياء، وحتى في الشعر، يحضر اللون كمفردة وكمكون أساس لبناء الصورة، ما يجعله واحداً من المؤثرات الرئيسة فيه شعرياً وجمالياً.
ومن هذه المتكآت أيضاً: آلة التصوير الضوئي ودورها الفعال في الفن، حيث حرر ظهورها في العام 1850 اللوحة من دورها الخاص المتمثل في رسم الصور الشخصيّة «البورتريهات». ومع ظهور اللون في التصوير الضوئي، تمكن من نقل مشاهد متآلفة بالألوان، وأصبح من السهل التحكم في المادة اللونيّة المنتجة، سواء عن طريق الآلة، أو أثناء التحميض أو الطبع. كما ظهرت المرشحات الملونة «Filters» لتغميق ألوان معينة مثل زرقة السماء، أو مزج عدد من الألوان في لوحة واحدة، أو إبراز ألوان وجعلها صارخة أكثر من غيرها.
المتكأ الثالث الذي اعتمدته الفنانة اليحيائي في إنجاز أعمالها هو آلية التقاطها لها والقائمة على المنظور «الجشتالتي» للإدراك الفني في تأكيد البحث عن التكوينات اللونيّة التي هي - كما تقول الفنانة - جمع كلمة التكوين، ويقصد بها عمليات الترتيب والتنظيم للألوان في كيان متناسق مبني على البحث عن العلاقات المترابطة بين الخطوط والألوان الخالصة، والتي تشكل كيان خالص للعمل وفقاً للقواعد الفنيّة، يجعل العين تتجول فيه، داخل اللوحة بانتظام من جزء إلى آخر.
على هذا الأساس، وبشكل عام، هدفت الفنانة اليحيائي من خلال تجربتها هذه، البحث عن المنظومات الجماليّة الموجودة في البيئة المحيطة بها، حيث كانت - كما تقول - رحلة بحثها مرتكزة على ألوان الأقمشة كمادة خام، واقتصر البحث في المثيرات اللونيّة للرؤية التي قد تلهم الفنان القدرة على الملاحظة الاستكشافيّة للتكوينات الموجودة في الواقع المحيط، حيث أن منهج الملاحظة والتأمل الاستكشافي برأيها، من شأنه أن يقوي علاقة الفنان بالمثيرات من حوله، ويتيح له اكتشاف الإمكانات الكامنة فيما يحيط به من عناصر برؤية تتخطى حدود الرؤية الاعتياديّة، والتي بإمكانه أن يختزنها ليفصح عنها في لحظات التفكير الإبداعي.
أما الهدف الفني لتجربتها المتمثلة بأعمال معرضها الفردي السابع «تكوينات لونيّة» فهو محاولتها الاستفادة من مقومات الطبيعة أمامها «وهي مصنوعة» ومحاولة محاكاتها، ولكن بشكل يضمن التعبير عن مكنوناتها ورؤاها الداخليّة والتي التقطتها بفعل تأملها للطبيعة من حولها. لذلك جاءت هذه التجربة عارضة لفلسفة قديمة في الفن التشكيلي مرتبطة بنظرية المحاكاة، ولكن بمحاكاة يستمتع بها الفنان نفسه.
وتختصر الفنانة اليحيائي الهدف التربوي لمعرضها الهام والمتميز هذا، بإيجاد تكوينات متكاملة قائمة على العلاقات اللونية التي بالإمكان الفوز بها وتحقيقها، من خلال استمراريّة التأمل الدقيق للعلاقات اللونية التي من شأنها أن تساهم ببناء عمل فني متكامل، اعتماداً على إمكانيات «الكاميرا» في التسجيل السريع للأشياء، بتدخل مباشر من الفنان الذي يقودها، آخذين بعين الاعتبار، المقولة التي تؤكد أن الوظيفة الحقيقية للفن، ليس مجرد محاكاة تستهدف إنجاز فعل المطابقة بين «المعطى الطبيعي» و»المنتج الفني» بل هو إنتاج للجمال، وتشجيع على التأمل والاستبصار، وهذه الخصيصة تحديداً، هو ما يميز الفنان عن غيره من الأشخاص، فالفنان، وبحدسه الاستكشافي، وحساسيته العالية، ورؤيته العميقة للأشياء الموجودة في الطبيعة، أو تلك التي يرتبها وينظمها وينضدها ضمن تكوين مؤلف من عناصر مختلفة، ثم يجمدها في منجز بصري مادته الخط «الرسم» واللون، أو الحجم، أو الأضواء والظلال، بوساطة القلم والريشة، أو بوساطة الإزميل والمطرقة، أو بوساطة «الكاميرا» يرى ما لا يراه الإنسان العادي، ذلك لأنه يُشغل حين يتأمله، بصره وبصيرته، للنفاذ إلى المنظومة الجمالية الخاصة الكامنة فيه، ومن ثم استخراجها وتجسيدها في مادة تعبيريّة ملموسة وقابلة للاستمرار والحياة، وتالياً استثارة الملتقي، ودفعه للمشاركة في متع هذا الكشف.