تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تحولات المسرح .... البقاء للأصلح والنصر للأقوى

الملحق الثقافي
5-2-2013م
عبد الناصر حسو -يجمع خبراء الإعلام أن العالم العربي يشهد تحولات كبيرة نتيجة ثورة في عالم تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام،

ليس على مستوى حجم المعلومات وتراكب الصور المتبادلة وتبادل البرامج وتفاعلها فحسب، بل على مستوى تحولات قدرة الفنون لاستيعاب المعلومات وتوظيفها المناسب بالشكل الأمثل، ضمن برامج معينة على صناعة صور شديدة الشبه بالواقع.‏

هناك انطباع عام بأن ثورات الأجيال وصراعاتها في النصف الثاني من القرن العشرين والتي وصلت ذروتها مع أحداث أيار الطلابية في باريس، ولدت في شكل مباغت تيار ما بعد الحداثة مع جاك دريدا من رحم حداثة فكرية أتت نتيجة لانهيار أنماط معينة من منظومة الأيديولوجيات السائدة وبداية هيمنة التكنولوجيا على الحياة الغربية، ما قضى على الثورات الصناعية وآثارها أو على الأقل أحدثت قطيعة معرفية وتاريخية وفنية معها.‏

قبل هذا وذاك، كانت آثار الحرب العالمية الثانية واضحة على النتاج الثقافي في أوروبا خاصة مع كتاب مسرح العبث والتيارات الفنية التي ظهرت فيما بعد مثل جون أوزبون ومسرحيته الشهيرة «انظر إلى الخلف بغضب» التي تحولت إلى تيار فني في إنكلترا.‏

في حين أن الثورة الصناعية التي ولدت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر كانت محرك الوعي الطبقي الذي بدوره كان أحد أسس أيديولوجيات التقدم وعلى رأسها الماركسية في عام 1917، في ذلك الحين، وكل ما سبق كان انطباعاً عاماً، لكنه في الوقت نفسه لم يكن دقيقاً، ذلك أننا إذا ما تفحصنا الأمور عن قرب أكثر، يمكننا أن نرى تمرد الشباب ونجد جذوره المباشرة في النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حرب باردة قسمت العالم معسكرات لتضعه من جديد أمام احتمالات دمار مقبلة.‏

إذاً محط الغضب في خمسينيات وستينيات القرن العشرين كان الماضي نفسه بكل ما يمثله من عادات وتقاليد ثقافية، ولما كان الآباء والعائلة وقيم البرجوازية معاً يمثلون هذا الماضي، فلم يكن غريباً أن هذا الماضي بثقله يكون واحداً من أهم شعارات ثورات الطلاب للتخلص منه «اهرب يا رفيقي.. إن الماضي يطاردك»، فالماضي شديد الشبه بالحاضر الذي يتشكل في رحم المستقبل نتيجة الظروف التاريخية.‏

إذا كانت الصور مطابقة للواقع وداعمة للحقيقة وتحضيرها، فهي تستوجب حركة وأصواتاً ومؤثرات، وباستطاعة من يملك هذه الوسائل أن يتحول من مستقبل إلى مرسل يتمكن عبر ما تطرحه هذه الصناعة الجديدة من تفجير طاقات جديدة وخلاقة والاعتماد على لغة الصورة ومفرداتها كعنصر مكون لبنيته الفكرية والذهنية، ويصبح التخاطب بالصورة جزءاً أساسياً مكوناً للعلاقات الترابطية بين الأفراد والمجموعات، فالصورة واقعية خادعة فيما إذا امتلك صانعها تقنيات حديثة.‏

الثورة المعرفية ساعدت نقل المشهدية البصرية من اللغة الأدبية التي تعيق المسرح وتأسره إلى اللغة البصرية، حيث الانتقال من حالة الإشباع المادي إلى حالة الإشباع المعنوي «الروحي» الأمر الذي دفع ببعض المسرحيين إلى الزعم بأن مشروع المسرح بدأ يحتضر أو وصل إلى نهايته، لكن حقيقة الأمر طرأ تحول مرحلي عليه وكان يجب الانتقال إلى مرحلة جديدة تسودها اللغة البصرية والفنون الأدائية والاستعراضية لطرح مواضيع تمس متفرج اليوم بغض النظر إن كان الموضوع سطحياً أو جوهرياً، وبناءً على هذه الفكرة وضع بعض المسرحيين تصورات جديدة حول اختزال الحلم وإعادة تركيبه وفق معادلة جديدة لم يتم اكتشافها بعد على المستويين العملي والنظري.‏

بدأت إرهاصات هذه الثورة تتمظهر في السنوات الأخيرة من العقد الأول في الألفية الثانية، لكنها لا تزال في طور البحث والتكوين رغم النجاحات التي توصلت إليها، رغم أن هذه النجاحات شكلت تقدماً ملحوظاً بين نخب ثقافية تتلمس طريقها ولم تستقر بعد على طريق صحيح.‏

يكمن الوجه الآخر لهذه التطورات التكنولوجية في انتفاء ثنائية الإرسال والاستقبال كشكل تقليدي للعملية الإبداعية، فيتمكن الجالس/ المتفرج أمام جهازه التكنولوجي «تلفزيون، كومبيوتر مجهز بتقنيات الانترنت وما يدور في فلكه» بالتحكّم على أن يختار بين ما تبثه هذه القناة التلفزيونية أو تلك أو ما يستقبله ويبثه عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويرفض أو يقبل حسب رغباته وطموحاته السياسية والثقافية ما يراه مناسباً لذهنيته، لكن العرض المسرحي لا يندرج تحت الترويج الإعلامي، وإن كانت وسائل الإعلام تساهم في تسويقه ونشره وتالياً فمتفرج المسرح غير كسول فيزيولوجياً وفكرياً.‏

إذاً أين يقف المسرح أمام هذه الثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصالات الحديثة؟‏

إذا كان لا بد لنا أن نعرج إلى الدراما التفاعلية مع تشارلز ديمير، فلا بد أن نعرض آراء بعض الذين لا يعتبرونها دراما طالما لم يكن هناك اختلاف بين ما يجري في الواقع وما يجري على الخشبة. تجربة مثل العمل التفاعلي/ الرقمي خاضها مخرج عراقي في مونودراما بعنوان «فيس بوك»، فكانت استجابة لوسائل الاتصالات السريعة.‏

المتشائمون أعلنوا وفاة المسرح واكتفوا بالجلوس في زوايا المقاهي ينتظرون من يدق مسامير النعش أو لِمَ سيأتي بعد الدراما، والمتفائلون رأوا أن المسرح يخضع لعملية تحول من حالة إلى حالة أخرى كلما مر بمنعطف تاريخي حاسم وتغيير جذري في ذهنيه المجتمع وبنيته الفكرية، لكن الجميع صفقوا باحتفالية لا توصف وأطلقوا شعار «البقاء للأصلح.. والنصر للأقوى» مع تشارلز داروين الذي أثر في كتاب القرن التاسع عشر وخاصة ابسن وسترنبرغ وميترلنك.. وهم قلة يرون أن هذه التطورات ورغم قدرتها على تمكين المشاهد ما يريد مشاهدته وعندما يريد، إلا أنها لا تستطيع تلبية الرغبات والطموحات أو أن تفي بكل الحاجات البشرية، بل إن هذه القدرة على تقديم هذا الكم الهائل ما يجعل المتلقي يشعر بتخمة تولّد بدورها رتابة وبالتالي مللاً «الدراما عدو الملل» يدفعه للبحث عن برامج جديدة أخرى، بل عن أنماط ثقافية تخرج به عن المألوف، وهنا يكون المسرح بما له من قدرة على نفي رسائل الاتصال وأدوات الإرسال والاستقبال بأن يجعل الممثل وجهاً لوجه مع المتفرج في الصالة، بل ينصهر هذا المتلقي في اللعبة ليصبح جزءاً أساسياً ومؤسساً للمشهد المسرحي «مشاركة الممثل والجمهور في العرض كحالة شعورية» ما يجعل المبدع يتلقى صدى عمله في حينه ولا يترقب النتائج التي تقدمها وسائل وأدوات البحث التي ترجع إليها القنوات وعلى أساسها يكون الإنجاز وتكون البرمجة.‏

تؤكد العروض في المهرجانات والمواسم المسرحية وحتى في الأيام الثقافية أننا لا نعيش أزمة نصوص مسرحية أو أزمة خلل على مستوى الخيال المسرحي أو حتى أزمة قراءة إبداعية للمخرج، بقدر ما نعيش تحولاً تاريخياً نحو فرجة مسرحية مفعمة بنصوص متعددة ومتنافرة من مختلف الاتجاهات والمذاهب ووسائل التعبير الشعبية ولا يشكل فيه النص المسرحي بؤرة درامية لكل النصوص الموازية الأخرى أو المعدة أساساً لصناعة الفرجة المسرحية.‏

يتساءل باتريك بافيس: هل لا يزال الناس يكتبون نصوصاً لأجل المسرح، نصوصاً تقرأ كأدب وينظر إليها من حيث هي سابقة للإنتاج المسرحي؟ هل لا تزال تلك النصوص تحمل صفة درامية أم أنها أصبحت ما بعد درامية ومختلفة جذرياً عن تلك التي سبقتها؟‏

عرف المسرح العربي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تطوراً ملحوظاً في بعض إنجازاته ذلك بالعودة إلى التراث الحي وإعادة صياغة أشكاله الفنية والثقافية التي تنطوي على مواقف إنسانية وتجاوز الصيغ الأوروبية والابتعاد عن الدراما الأرسطية لصالح ممارسة مسرحية متجانسة لاحتياجات مرحلة معينة الآن/ هنا.‏

بعد التحولات التي جرت على الضفة الأخرى من المتوسط على شكل مختبرات ومجموعات بحوث متعددة في الاختصاصات، انفتح المسرح على رحابة الأفق التجريبي للممارسة الإبداعية، لكن حقيقة الأمر أن الممارسة المسرحية متفاعلة مع تحولات صناعة الفنون على مستوى ثقافات العالم، وهو انقلاب تجريبي يبحث عن طرائق بديلة لصناعة الفرجة وتلقيها، لأن المسرح متجدد ومستمر في الولادة في كل لحظة، كونه يتوفر على قابلية داخلية للتجاوز وإعادة البناء انطلاقاً من تفاعله مع محيطه، وشكلت تلك الفترة انفتاحاً على آليات اشتغال الفرجة التقليدية وتكييف تقنيات خيال الظل وصندوق الدنيا والحكواتي والسامر والحلقة من حيث هي فرجات شعبية بدائية تساعد بنية الفن المسرحي الوافد إلى الثقافة العربية، وتحول مساره نحو شمولية الفن المرتبط بإنسانية الإنسان.‏

بالعودة إلى ما يجري الآن في الساحة العربية، لم يكن بعيداً عما جرى في السابق، هناك احتمالات أيضاً بالقضاء على السائد، فالحياة متغيرة والإنسان قابل للتغير أيضاً، وبالتالي ندخل مرحلة جديدة أو نحضّر أنفسنا للدخول إليها، تكون سمتها الأساسية التعددية الثقافية مستفيدين من منظمة اليونسكو وإصرارها الحفاظ على التعددية الثقافية في الهوامش، وحتى التعددية في الإجابات على سؤال واحد، فتعددية الثقافة مرتبطة إن شئنا أم لا بتعددية الأيديولوجيات السياسية والقوميات المتجاورة وأنماط الحياة المعيشية إلى تعددية الأقطاب.‏

هل سنشهد تحولاً على المدى المنظور في إعادة النظر بمسرحنا العربي وبتفكيرنا وعاداتنا، مع علمنا أن الفن في خدمة الإنسان المحدد وتكوينه في الزمان والمكان؟‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية