جعلت أيضاً كُثر من الإعلاميين والمناضلين الوطنيين يفعلون الشيء ذاته, وسواء بأقلامهم أو عبر منابرٍ مكَّنتهم من حشدِ وتثقيف وتوجيه الرأي العام باتجاه أهدافٍ سياسية واجتماعية ووطنية, تصبُّ جميعها في مصلحة الوطن واستقلاله. مصلحة الأرض والأمة السورية..
أما عن هؤلاء الإعلاميين الذين ومثلما صبوا غضب مقالاتهم ناراً على الأعداء, صبوه أيضاً فرحاً باستقلال وطنٍ خلَّد السابع من نيسان 1946 يوماً أبدي الاحتفاءِ بالجلاء. أما عنهم فمنهم:
فخري البارودي:
ولو في وجهنا وقفتْ.. دهاةُ الإنسِ والجانِ
إنه السياسي والمناضل والصحفي والمفكر، ابن دمشق وحامل ثقافة كتاتيبها, بل المتمرِّس في صحافتها, والذي اشتغل مع «محمد كرد علي» في جريدة «المقتبس» الصحيفة التي عارض عبرها وبشدة, الاستعمار الفرنسي في سورية, وإلى أن بات لقبه «زعيم الشباب».
لقد اتَّجه ومذ كان في السادسة والعشرين من عمره إلى الصحافة, ليكتب وبسخرية قلمه وفي جريدة «حط بالخرج» الدمشقية, مقالات تهاجم الاحتلال الفرنسي وتدعو إلى النضال ضده ومقاومته, وكان يوقع افتتاحياته باسمٍ مستعار هو «عزرائيل»..
كان أيضاً, وبالرغم من أنه سجن لأكثر من مرة بسبب مواقفه الوطنية, يدعم ثوار غوطة «دمشق» الذين لعبوا دوراً كبيراً في النضال ضد الاحتلال الفرنسي, وكان يوزع المنشورات التي تدعو إلى طرد هذا المحتل, بالإضافة إلى تنظيم المظاهرات التي كانت تنطلق من منزله الدمشقي..
لكن, ولأن المستعمر اعتاد على إسكاتِ الأقلام وكمِّ الأفواه التي ترفض استعباد واحتلال الأمم, نفاه عن «دمشق» ليعود فيكون مصيره في سجن المزة العسكري, وليخرج لعدم التمكن من إثبات تهمته, ودون أن يتوقف رغم إصابته أثناء العدوان الفرنسي على قلعة «دمشق».. دون أن يتوقف عن تدوين ما أدان به الاستعمار ووحشيته, وهكذا إلى أن تمَّ الجلاء, وبدأ يجمع في المنزل ذاته, الأدباء والشعراء السوريين, ممن كتبوا وإياه روائع القصائد الوطنية.. القصائد التي عبَّرت عن فرحته وإياهم بهذه المناسبة, والتي كان أجملها, تلك القصيدة التي لا يمكن أن ننسى أبداً أبياتها لطالما لم تعدْ تتردَّد فقط على الشفاهِ السورية, وإنما أيضاً على شفاهِ كلِّ أبناء الأوطان العربية..
بلادُ العُربِ أوطاني
من الشامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يمنٍ
إلى مصر فتطوان
فَلا حدٌّ يباعدنا
ولا دينٌ يفرِّقنا
لسانُ الضادِ يجمعنا
بغسانٍ وعدنان
لنا مدنيَّة سلفت
سنُحييها وإن دُثرت
ولو في وجهنا وقفتْ
دهاةُ الإنسِ والجانِ
إضافة إلى كل هذا, علينا ألا ننسى الدعوة التي وجهها «البارودي» عام 1923, إلى أبناء وطنه, والتي طلب فيها منهم, مقاطعة الشركات والبضائع الأجنبية, وكان ذلك بميثاقٍ عُرف ب «ميثاق البارودي» ويتضمن:
«أعاهد الله والشرف على ألا أصرف قرشاً واحداً في حاجة صادرة عن بلادٍ أجنبية مادام يوجد منها في وطني العربي الكبير, وأن أعزِّز اقتصاد بلادي وأعمل على ترويجه بكلِّ ما لديّ من قوة, والوطن شاهدي, والله حسبي ووكيلي».
نجيب الريس:
لن نخون العهد يوماً .. واتَّخذنا الصدق دينا
هو أيضاً, صحفي وسياسي وناشر ومفكر سوري, وكذلك من أوائل رجال سورية الذين عاشوا مابين الملاحقات والسجون والمنافي, وبسبب مهاجمته للعدوان الفرنسي المتكالب على سورية, وعبر جريدته «القبس» الدمشقية التي كانت لسان حال الحركة الوطنية السورية.
لاشكّ بأن الآلام التي عاشها «الريس» في وطنٍ يرزح تحت عبءِ الاحتلال, لعبت دوراً أساسياً في اتجاههِ للمقاومة والنضال, وبدءاً من مقاله الافتتاحي الذي كان القراء ينتظرونه على أحرِّ من الجمر, ولما تميَّز به من جرأة غير هيَّابةٍ في معالجتها لمواضيعٍ تتحدى وتسخر من المستعمر الفرنسي, وهو ما عرَّض صحيفته للإغلاق أكثر من مرة. تماماً مثلما عرّضه هو أيضاً للسجن والنفي.
أما عن أول مرة سُجن فيها, فكان ذلك في «أرواد» وكان يومها لا يتجاوز العشرين من عمره, وفي السجن, نظَّم قصيدته الرائعة والشهيرة:
يا ظلامَ السجنِ خيّم
إننا نهوى الظلاما
ليس بعد السجنِ إلا
فجر مجدٍ يتسامى
إيهِ يا أرض الفخار
يا مقرّ المخلصينا
قد هبطناكِ شبابا
لا يهابونَ المنونا
وتعاهدنا جميعاً
يومَ أقسمنا اليمينا
لن نخون العهد يوماً
واتَّخذنا الصدق دينا
هكذا كان نضال «الريس» .. هكذا كانت مفرداته التي ثابرت على مقارعة الاحتلال, وبقصائدٍ ومقالاتٍ صبَّ فيها جام حقده على المحتل.. مقالاتٍ نختتم ببعض ما ورد في إحداها, حيث كتب:
«إن سياسة حسن التفاهم ماتت يا فرنسا, فنحن لا نستطيع التحنيط كالفراعنة, وليس أمامنا سوى الوطن»..